ويسل أيهان
إن تشخيص الأمراض الجسمانية سهل، لكن الأمر نفسه لا ينطبق على الأمراض النفسية، فعلى سبيل المثال، الكِبر مرض نفسي، لكن أي متكبر لا يرى نفسه “مريضًا”، هو مريض نرجسي، لكنه يعتبر نفسه معافىً لا يعاني من أي خلل، كما أن الحسد مرض، غير أن الحاسد لا يلاحظ أنه مريض مهما حدث.
أما الكذب، فنحن نغضب، غالبًا، على الكذابين بينما يجب علينا أن نعتبرهم “مرضى”، وننصحهم بالذهاب إلى إحدى عيادات الطب النفسي، ويعرّف الطبيب الألماني أنطون ديلبروك الكذب بأنه مرض، وللأسف، فإن هؤلاء المرضى لا يفقدون طرف الكذب فحسب، بل يفقدون طرف الحقيقة كذلك بمرور الوقت، ولا يمكن حتى لمن حولهم أن يفرّقوا بين ما يقولون ويؤمنون به من أكاذيب وحقائق.
يرى المرضى المصابون بمرض الكذب أنفسَهم كاملِين في المرحلة الأولى من مرضهم، فلايضعون الآخرين في اعتبارهم، ثم سرعان ما ترى في خطاباتهم ردود أفعال حسية وبدنية مبالغ فيها، وبمرور الوقت، يتحول اضطراب الشخصية الهستيرية هذا إلى مرض الكذب لدى ذلك الشخص، وحينها يتخيل المريض بأن ما يريد تحقيقه قد تحقق بالفعل، ثم يصدّق هذا الخيال بعد تكرار بعض الأكاذيب.
لقد شهدت تركيا ظهور العديد من هذه النماذج عقب الكشف عن فضيحة الفساد والرشوة الأخيرة يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وفي الواقع، لا تزال مواقع التواصل الاجتماعي في تركيا إلى الآن تناقش ما إذا كان “مريضًا بالكذب أم لا” ،علينا أن نترك مناقشة الموضوع للأطباء النفسيين، لكن أرى فائدة في تحليل بعض الأمارات، ويكفينا أن نطلع فقط على التصريحات الصادرة والعبارات الواردة في اللقاءات الجماهيرية، حتى نفهم هذه الشخصية، وبما أن هذا المرض يمكن تصنيفه ضمن الأمور الداخلة في “أسرار الدولة”، لنكتفِ بسرد عدة تصريحات لا نزال نتذكّرها ونهديها إلى “رجل الدولة ذلك“:
1 – عقب فضيحة إنزال العَلم التركي في قيادة القوات الجوية الثانية في ديار بكر، قال رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان إن “جماعة الخدمة هي من يقف وراء هذه الواقعة” ، إلا أن شخصًا يدعى عمر موطلو، ينتسب إلى حزب العمال الكردستاني، ألقي القبض عليه بعدها بقليل بتهمة ارتكاب هذا الفعل.
2 – عندما تم إيقاف الشاحنات التابعة لجهاز الاستخبارات التركي على الحدود التركية – السورية بعدما تلقت السلطات بلاغًا يفيد بنقلها شحنة من الأسلحة، قال أردوغان “إنها تحمل مساعدات إنسانية”، لكنه ولا أحد سواه لم يردّ على الأسئلة الواردة حول سبب عدم نقل هذه المساعدات بواسطة الهلال الأحمر التركي أو لماذا أُخفيت هذه المساعدات، التي قيل إنها كانت عبارة عن بطانيات وما إلى ذلك من الاحتياجات الأساسية، عن أعين النائب العام، ثم صدرت تصريحات تدعي “أن التركمان يتلقىون مساعدات تسليحية”، لكن سرعان ما كذب التركمان هذه الادعاءات بقولهم “لم نتلقَّ أي مساعدات إنسانية أو تسليحية”، وعندما ظهرت محاضر النواب العامين بعد أيام، فهمنا أن هذه الشاحنات كانت تنقل صواريخ وأسلحة.
3 – قال أردوغان إن “زوجة أحد أقربائه تعرضت للضرب في منطقة كاباتاش في إسطنبول، بينما كانت تحمل ابنها الرضيع”، وإنه “يمتلك مقاطع مصورة لهذه الواقعة”، وإنه “يستعد لنشر هذه المقاطع”، غير أنه ظهر لاحقًا أن هذه الواقعة ما هي إلا كذبة شنيعة من خلال المقاطع المصورة التي رصدتها عدسات كاميرات المراقبة في المنطقة التي شهدت الواقعة.
4 – حمّل أردوغان مسؤولية تسجيل الفضيحة الجنسية للرئيس السابق لحزب الشعب الجمهوري المعارض دنيز بايكال، للرئيس الحالي للحزب المعارض كمال كليتشدار أوغلو في البداية، ثم ألقى بالمسؤولية على جماعة الخدمة عقب الكشف عن فضيحة الفساد في 17 ديسمبر / كانون الأول، لكنه لم يبرهن على صحة ادعائه هذا حتى بدليل واحد، الأمر الذي قوّي الادعاءات التي تقول إنه – أي أردوغان – هو الذي يقف وراء هذه المؤامرة ضد بايكال لفضحه.
5 – أخذ أردوغان يصرخ في الميادين باستمرار عقب الكشف عن فضيحة الفساد، ويقول: “لقد تنصتت الجماعة على مكالماتي”، ثم ظهر بعد ذلك أن من يتنصت على تركيا هم الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا، وقد أكدت هذه الدول صحة عملية التنصت على أنقرة، غير أن السيد أردوغان لم يستطع أن ينبس ببنت شفة في حق هذه الدول.
6 – عاوده المرض الذي يجعله “يتخيل أن ما يرغب في حدوثه قد حدث بالفعل”. وعلى الرغم من عدم وجود أي تحقيق بشأن الأستاذ فتح الله كولن، صرح أردوغان في لقاء تليفزيوني شارك فيه على قناة” إيه تي في” (ATV) في مارس/ آذار الماضي، بقوله: “التقيت الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وتشاورت معه حول هذه المواضيع، وطلبت منه إعادة كولن المقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، فنظر لي نظرة إيجابية، ما يعني أنه فهم رسالتي”، الأمر الذي جعلنا نشهد واقعة هي الأولى من نوعها في تاريخ البيت الأبيض؛ حيث اضطر المتحدث باسم البيت الأبيض أن يكذّب تصريحات أعلى شخصية سياسية في بلد، وهي تركيا، وقال المتحدث إن الرئيس أوباما لم يدلِ بتصريح كهذا، كما زعم أردوغان، ما تمخّض عنه وضْع تركيا في موقف محرج أمام الرأي العام العالمي.
7 – لم يتورّع أردوغان عن إلصاق تهمة أحداث الشغب والعنف الذي شهدته تركيا عقب عيد الأضحى الماضي، بحركة الخدمة. بيد أن المدارس والمراكز التعليمية التابعة لجماعة الخدمة تعرضت للحرق والسلب خلال هذه الأحداث. فكيف ستقدم الجماعة على حرق المدارس والنزل الطلابية التابعة لها؟! هذا فضلًا عن اتهامه لأتباع حركة الخدمة بأنهم “إرهابيون”، بالرغم من أنهم لم يحملوا طيلة عمرهم “ولاعة” ولم يدخلوا قسماً للشرطة، ناهيك عن حمل الأسلحة المميتة.
8 – سخر أردوغان، في كلمة ألقاها قبل يومين، من رسالة العزاء التي نشرها السيد فتح الله كولن بشأن وفاة الفتى بركين علوان، الذي لقي مصرعه متأثرًا بإصابته في أحداث متنزه جيزي بارك في صيف عام 2013، والذي هاجم أردوغان والدته في أحد لقاءاته الجماهيرية، زاعمًا أن الأستاذ كولن آثر الصمت بشأن الفتى بُراق جان الذي توفي نتيجة إصابته في الأحداث التي شهدها ميدان أوك ميداني مؤخرًا احتجاجًا على ما تشهده مدينة كوباني في سوريا. بيد أن السيد كولن نشر رسالة عزاء لمواساة أسرة الفتى جان. ويبدو أننا لن ننتهي من إحصاء أكاذيب السيد أردوغان، حتى إن حاولنا ذلك.
وهناك عَرَض آخر يعاني منه المصابون بمرض الكذب، ألا وهو جنون السرقة. أي أن يسرق الإنسان وهو ليس في حاجة إلى ذلك. فعلى سبيل المثال، إذا كان هذا الشخص يملك مليارات الدولارات، فإنه لا يكتفي بذلك، ويسرق، وتشغله فكرة كيفية زيادة ثروته بشتى الطرق. فإذا كان يريد 20 مليون يورو مثلًا، لا يقنع بعشرة ملايين يورو.
وثمة عَرَض آخر يعاني منه المريض بمرض الكذب، ألا وهو الغطرسة. ولقد عرضت صحيفة” لوموند” الفرنسية الشخص الذي يعاني من هذا العرض على خبير للأمراض النفسية والعصبية، ووضعت التشخيص التالي: “إذا قفز غرور الشخص إلى القمة ووصل كبره وانخداعه في ذاته إلى ذروته، يعرّف الأطباء هذه الحالة بأنها غطرسة أو كبر، أي نشوة السُلطة!”.
لنترك المسائل الطبية للأطباء النفسانيين، أما ما يقع على عاتقنا فهو المطالبة بتناول مجلس الأمن القومي لهذا الموضوع، على اعتبار أن إصابة أعلى مسؤول بالدولة بهذه الأعراض تعتبر مسألة أمن قومي.