تامر تشتين
يقال إن تركيا تشهد ثورة شعبية، وعليه تكون تركيا عملاقا عالميا ويكون أردوغان زعيمًا عالميًا نادرًا، بصفته هو المنجز الأوحد لكل هذه النجاحات العظيمة.
على ما يبدو أن الذين ينظرون إلى أردوغان، بأن له قدرة ومهارة فائقتين على تخطي الصعاب وتجاوز المهالك، يعتقدون أنه لا يمكن تفسير ما يحدث إلا بأنه عمل سحري، وعلى ذلك يطلقون مصطلح الثورة الشعبية على ما يحدث، وينعتون القائم بهذه الأعمال بـ”القائد العالمي” ،وإلا يجب قول أشياء مختلفة وسيئة عن سبب تفكيرهم على هذا النحو، وعليه، فإن الشيئ الوحيد الصحيح في هذا الوهم هو أن أردوغان زعيم فريد من نوعه، وذلك بفضل نجاحه في “بيع” هذا الادعاء الخاطئ، وكأنه صحيح، ولأنه جعل الآخرين يصدقونه.
وبخلاف ذلك، فكما كتبت عن هذا الموضوع مرارًا وتكرارًا، فليس هناك أية ثورة شعبية أو سير نحو الأفضل في تركيا، وكل ما في الأمر هو أن أردوغان اكتشف طريقة يمكن أن نصفه من خلالها بـ”الثوري” لجمع أصوات الناخبين في شخصه، أو أن النهج السياسي منقطع النظير الذي اضطر لتجربته، لافتقاره لخيار آخر، والذي تعاني جوانبه، كافة، من المشاكل، قد أفاده بشكل لم يكن يتوقعه، ويعتبر أردوغان رمزًا سياسيًا حصريًا تمركزت في شخصه مثل هذا النوع من التناقضات السياسية، وقد نجح في جعل الناس يصدقون أنه فعل ما قام به بالفعل، وفعل ما لم يفعله على أرض الواقع، ونجح في إنجاز أعمال توصف بـ”الثورية” ليس في صالح تركيا والعالم، كما يقال، ولكن في سبيل تحقيق سلامة نفسه وعائلته والبيئة المحيطة به.
فعلى سبيل المثال، وصل أردوغان إلى السلطة عن طريق انتهاجه سياسة مكافحة الفساد ، لكنه فيما بعد استطاع البقاء في السلطة بل رسّخ دعائم حكمه رغم أنه تورط في فضيحة الفساد والرشوة، وكان أردوغان قد وصل إلى سدة الحكم من خلال ممارسته سياسة تركز على الفضيلة والأخلاق، وكان يقول إنه سيكافح الفساد وسيطارد الفاسدين، وكانت هذه الوعود أحد الأدوات السياسية الرئيسة التي أوصلته إلى السلطة، غير أن أردوغان ذاته دعم حكمه هذه المرة باستمرار أنصار حزبه في تأييده وحزبه بحجة “أنهم يعملون ويخدمون البلد والشعب” مع اعترافهم في نفس الوقت بـ “أنه وبعض أعضاء حزبه وحكومته يسرقون” ، رغم الحقيقة والواقع هو شخصيًا وعائلته والحلقة المحيطة به من المقربين إليه وبعض من أعضاء حكومته قد تورطوا في فضيحة الفساد والرشوة.
لم تكن هذه المرة سياسة أردوغان لتقوية أواصر سلطته، تستند إلى الفضيلة والأخلاق في المقام الأول، لكنه مع ذلك نجح في الحفاظ على بقائه مرة أخرى في السلطة بشكل أقوى مما كان عليه في السابق، والأدهى من ذلك هو أن أردوغان تم تسجيله في تاريخ السياسة العالمية وربما لأول مرة كزعيم سياسي أقنع أنصاره أن عملية كشف فضيحة الفساد، إنما هي محاولة انقلاب ضد حكومته، في حين أن التحقيق في هذه القضية تستند إلى أدلة مسجلة عن طريق أساليب شرعية قانونية، أي في حين أن القضاء كان يعمل كونه أحد المؤسسات في دولة ديمقراطية، وانت هذه خدعة سياسية ناجحة لدرجة أن هناك عددا كبيرا من الناس( ربما ما عدا هو فقط) ما زالوا حتى اليوم، يرددون( يلوكون في أفواههم) أن التحقيق في قضية الفساد يجري من جانب منتمين لجماعة الخدمة الذين خانوا وطنهم وتحالفوا مع قوى عالمية ، وأن هذا يعد إعلان حرب على حكومة حزب العدالة والتنمية، وهكذا، فإن نجاح أردوغان يقف أمامنا كعمل سياسي ناجح يستحق أن يُنعت بـ”الثوري”.
يعتبر أردوغان ثوريًا ماهرا لدرجة أنه فعل من خلال هويته الإسلامية ما لم يستطع أعداء الدين فعله في تركيا، إذ استطاع إشعال النار بعد أن سكب الوقود في جذور إحدى الجماعات الدينية،( حركة الخدمة)، ويجعل أنصاره من المسلمين يساعدونه في إشعال النار في جسد هذه الجماعة. كما استطاع إقناع أغلبية الشعب بأن هذا المشروع، المنجز بالمشاركة مع عناصر الوصاية، ما هو إلا عملية لإنقاذ تركيا من الوصاية الأخيرة، ويعتبر هذا الأمر من أسهل الأعمال بالنسبة لأردوغان، ولذلك فهو يستحق أن يكون رمزًا لا نظير له يحمل صفة الثورية. ذلك أنه نجح في إظهار أسلوب الحرفيين المتوترين، أكثر من كونه رجل دولة، وكذلك إظهار نفسه كشخصية إصلاحية، في حين أنه شخصية محافظة على بقايا الدولة المستقطبة، كما نجح في جعل أنصاره يؤمنون بأنه قائد عالمي، في حين أنه تسبب في إثارة مشاكل إضافية لبلاده بترجيحاته السياسية أكثر من كونه ساهم في حل المشاكل القائمة أصلًا، وهو يزاول نشاطه السياسي من خلال قضايا شائكة تتعلق بتغيير الهيكل التنظيمي مثل الدستور الجديد والمجلس الأعلى للجامعات والحجاب وقانون الأحزاب السياسية وغيرها؛ إذ إنه لم يقدم أي حل سياسي دائم لأية قضية أساسية تعاني منها تركيا، وركز في عملية صياغة دستور جديد للبلاد، على مواضيع تفتح أمامه الطريق لحصد مزيد من القوة والسلطة مثل النظام الرئاسي والكيان الإداري المناسب له، وهو بذلك لم يهتم بالمعنى الحقيقي لتغيير الدستور الذي يعتبر أكبر المشاكل التي تعانيها تركيا.
والوضع نفسه ينطبق على القضية الكردية، التي تعد من أعمق المشاكل في تركيا، بحيث يتلاعب أردوغان بأطرافها بطريقة تحقق مصالحه الشخصية فقط، كما فهمنا من تصريح أدلى به مسؤول رفيع المستوى بحزب العدالة والتنمية قبل فترة قصيرة لإحدى وسائل الإعلام العالمية. وفي الوقت الذي استغل فيه أردوغان العديد من القضايا الشائكة مثل تظاهرات جَيزي بارك وحوادث قتل الأطفال والوقائع الوهمية التي تتعلق بسيدة محجبة زُعم أنه اعتدي عليها في منطقة كابتاش بإسطنبول وادعاء معاقرة الخمر في أحد الجوامع وكارثة منجم سوما وغيرها، لتحقيق مصالح سياسية بحتة عن طريق التلاعب بتفاصيلها، تلقى بهذا النهج دعمًا شعبيًا بصفته شخصية سياسية فاضلة تحب شعبها.
لم يكن أردوغان إصلاحيًا – في حقيقة الأمر – في سياساته الاقتصادية، وقد أكد حقيقة هذا الأمر من خلال كبير المستشارين الاقتصاديين الذي اختاره لنفسه. ويعتاد أردوغان أن يضع مسافة دائمًا بينه وبين مواقف وزرائه المسؤولين عن الملف الاقتصادي، وقد أثبت من خلال هذه الانتخابات أنه لم يختر شخصيات مرموقة لتولي الملف السياسي في تركيا، بل اختار شخصيات تمتلك رؤية قومية ومحافظة لأقصى درجة، وتعتبر رؤاها موضع سخرية بين الاقتصاديين، وهو عينهم كمستشارين لنفسه، وعلى الرغم من كل هذه الأمور، اعتُبر أردوغان، بين أنصاره، شخصية إصلاحية ورجل دولة لديه رؤية عالمية، بالرغم من أنه ليس كذلك في الواقع.
هذه هي ثورة أردوغان الحقيقية. فهذه الثورة، من وجهة نظره، ليست تحولًا بمثابة ثورة شعبية، بل هي حكاية نجاحه السياسي الفردي فقط. وفي الوقت الذي يرتكب فيه أخطاء فادحة وكثيرة، فإن ما يفعله يعتبر نجاحًا لتقوية سلطته بدلًا من ضياعها وتعرضها للمساءلة، وبطبيعة الحال، يتمتع أردوغان بمهارة القيام بكل هذه الأمور في وقت متزامن، ما يجعله ليس رمزًا سياسيًا نادرًا فحسب، بل يمكن تعريفه في الوقت نفسه بأنه شخصية ثورية يمكن أن تدرَّس في مواد العلوم السياسية ويكون موضوعا للأبحاث العلمية من حيث اختلاف الطرق التي يمارس بها أعماله السياسية.