جنكيز تشاندار
من المفيد أن نتوقف أمام قول رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان: “إن القضية ليست كوباني (عين العرب)”، وكذلك على شروعه في ضمّ حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في شمال سوريا إلى حزب العمال الكردستاني ووصفهما معاً بـ”الإرهابي”، ذلك أن رئيس تركيا، يتحدث عن وجود “عقل مدبر” يقف وراءهما.
إننا نشهد مرحلة مليئة بتطورات من شأنها أن تحدّدَ مصير عشرات الملايين من الناس على مدى عشرات من العقود المقبلة، وتعيدَ تشكيل بعض الدول في منطقة الشرق الأوسط أو تمحوها من الوجود تماماً، وتتركَ بصمات بارزة تؤثّر على كل القرن الواحد والعشرين.
برأيي، هذا أمر حتمي، لكن الأهم من ذلك علامات الاستفهام التي تظهر في الأفق؛ فأين نحن من تلك التطورات؟ وفي أي مرحلة من مراحلها؟ وكم ستستمر، وكيف وأين ستنتهي؟ فتلك علامات استفهام لا أعرف لها إجابة.. ولا أحد يستطيع أن يعرف إجابتها.. بل إن معرفتها ضرب من المحال.
فلا يمكن لأحد أن يطلق تنبؤات حتمية قاطعة حول مدة تلك المرحلة ونتائجها، قبل أن تكتمل مراحل بناء التاريخ أو إعادة بنائه، وقبل أن تصل الأحداث إلى مستوى من النضوج بحيث يمكّننا من التعليق عليها بالنظر إلى بداياتها في الماضي.
مع ذلك، فإنه من الممكن وضع تشخيص للأحداث الجارية حالياً؛ فإن كان أصحاب هذا التشخيص سياسيين صانعين للقرارات، فإن الدول التي يقودونها مع شعوبها هي من ستدفع التكلفة الباهظة تبعاً لخطأ أو صواب تشخيصهم، فعلى سبيل المثال، ليس من الخطأ تماماً وصف الرئيس أردوغان لما يجري في المنطقة بأنه “صراعات القرن الجديد”، لأنه أحد أبعاد المسألة، وبحسب أردوغان فإن القوى الإمبريالية، التي وضعت المسمار الأخير في نعش الإمبراطولية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، وقسمت حدود بلدان المنطقة باتفاقية سايكس بيكو عام 1916، تسعى الآن لإعادة رسم وتقسيم حدود المنطقة من جديد.
إن قضية إعادة رسم حدود منطقة الشرق الأوسط باتت من أولويات أجندة القوى الكبرى العالمية مع بدء سقوط اتفاقية سايكس بيكو بعد مرور مايقرب من 100 عام، وانهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط كل من يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وتوحد شطري ألمانيا الشرقي والغربي، أي بعد إعادة رسم حدود القارة الأوروبية، في أعقاب الحرب الباردة، ذلك لأنه متى ماتم إعادة رسم حدود البلدان الأوروبية طيلة مائة عام الأخيرة تم معها إعادة رسم حدود منطقة الشرق الأوسط كذلك.
وبعد ذلك، فإن توصلتم إلى “أن المسألة ليست كوباني بل تركيا”، انطلاقاً من أن هذه الخطوة عبارة عن خطةِ وتصميمِ الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، أي “القوى الإمبريالية” فما النتيجة التي سيرتّبونها على هذا الحكم؟
فتركيا من الناحية الأمنية هي العضو الوحيد في حلف شمال الأطلسي (ناتو) بقيادة الولايات المتحدة في “جيوسياسية الشرق الأوسط”، وإن كانت العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي هي المشروع السياسي الاستراتيجي لتركيا، فإن الدول الأوروبية كذلك تصبح “حلفاءها الاستراتيجيين” إلى جانب أمريكا، لكن إن كان العقل المدبر هذا هو “القوى الإمبريالية التي تريد تفتيت تركيا”، كما كان في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أو “الغرب” بمعناه “السياسي – الثقافي” و”الهوية الحضارية”، فعندها تتغيّر الحسابات، ولا بد أن تتغيّر! ومن هنا، فإنه من المفيد أن نتوقف أمام قول رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان “إن القضية ليست كوباني (عين العرب)”، وعلى شروعه في ضمّ حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في شمال سوريا إلى حزب العمال الكردستاني ووصفهما معاً بـ”الإرهابي”. ذلك أن رئيس تركيا، يتحدث عن وجود “عقل مدبر” يقف وراءهما.
أما “الأداة” التي سيوظّفها ذلك “العقل المدبرّ” أو تلك “القوى الإمبريالية الغربية” في إعادة رسم الحدود في منطقة الشرق الأوسط، على نحو يتعارض مع مصالح تركيا، فيشيرون حيناً إلى أنها حزب العمال الكردستاني (PKK)، وامتداده في سوريا حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) ، وجبال قنديل؛ معقله في شمال العراق، ويوحون حيناً آخر بأنها “الأكراد”.
وعلى الرغم من الانتقادات الحادة التي يوجهها زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهشلي لأردوغان، فيما يتعلق بسياسته في التعامل مع الأكراد، إلا أنه هو أيضًا يخلص إلى نتائج مشابهة، مع أن رؤيته لـ”صورة الشرق الأوسط” تتسم بأنها سليمة، وقراءته لها صحيحة، إذ أرجع العوامل التي لعبت دوراً في ظهور تنظيم داعش إلى هذا التشخيص الصحيح:
“إن التوتر الطائفي والاستقطاب والتناحر بين الطوائف وصل إلى حد بحيث صار كقنبلة منزوعة الفتيل تكاد تنفجر على رأس كل ساعة، فالنظرة الطائفية ووجهات النظر المذهبية، سواء كانت سنية أو شيعية، تصيب نخاع الأمة الإسلامية، وتمتصّ دماءها، فالوضع الحالي للأمة والعالم الإسلامي ينذر بخطر محدق وكارثة وشيكة، فالتنظيمات الإرهابية مثل داعش نشأت وترعرعت في مثل هذا المناخ، فكل من السنة والشيعة مسلمون، إذًا فما هو الأمر المتنازع عليه بين الطرفين؟ فهل هناك من قول في كتاب الله عزّ وجل يجيز هدم الجوامع والمقابر والأضرحة التي تخص الطرف الآخر، وقتل الأرواح واستهداف الممتلكات بعمليات تفجيرية؟ فما هذه العقلية التي تعتمدون عليها في قطع الرؤوس ذاكرين اسم الله وقائلين بسم الله، أليس هذا أكبر خيانة للدين؟!”
وبعد هذه القراءة الصحيحة للصورة الراهنة في المنطقة، يقدم الزعيم المعارض بهشلي ملاحظة يمكن وصفها بـ”الصواب نسبيا” إذ يقول: “في الوقت الذي تستعرّ فيه الحروب بالوكالة جراء الغضب النابع عن الأحداث التي وقعت قبل عصور، تتسارع وتيرة التجهيز والاستعداد لمراسم دفن المسلمين، في كل من واشنطن وبرلين وباريس ولندن، وغيرها من العواصم الغربية، فالقوى الإمبريالية عديمة الرحمة والشفقة تسعى لتحقيق أهدافها من خلال تأييدها للانشقاقات الداخلية، وتأجيج الفتن وإشعال الأحداث وزيادة التوتر في محيط آبار البترول الموجودة في منطقة الشرق الأوسط، غير أن المؤسف هو تحوّل المجتمعات الإسلامية إلى “أدوات طيعة” لتحقيق هذه النتيجة”.
وبعد أن انطلق من هذه النقطة، ينتقل إلى حديثه المعهود ويستخدم مفهوم “الخونة” الذي كثيراً ما يستخدمه الحزب الحاكم في خطاباته: “إن بعض من لجأوا إلى تركيا هربًا من الأحداث في بلدة عين العرب ( كوباني)، نظموا احتفالات لاستقبال قوات البشمركة المتجهة من شمال العراق إلى شمال سوريا عبر الأراضي التركية، كما شاركوا في تظاهرات حب وتقدير لأوباما، فمن الواضح أن الولايات المتحدة تتدخل بنفسها في المنطقة لإنشاء دولة كردستان…”
والسؤال هنا: “من هم الذين شاركوا ونظموا التظاهرات والاحتفالات في أثناء مرور قوات البشمركة من معبر خابور – سروتش، في بلدات نصيبين وكيزيل تبه وفيرانشهير، ومدينة أورفا جنوب البلاد؟ فإذا أردنا أن نقول بعبارة الساسة اليمينيين من الممكن أن نقول إنهم كانوا “إخوتنا الأكراد.”
ففي حين يقف ثاني أكبر جيش تابع لقوات حلف شمال الأطلسي (ناتو)، على بعد مسافة لا تزيد عن بضعة مئات الأمتار من بلدة عين العرب – كوباني، صامتًا أمام المذابح والمجازر التي يتعرض لها الأكراد هناك على أيدي تنظيم داعش ويتم نقل الصور واللقطات على جميع القنوات العالمية والدولية، بشكل يومي، يقف الأشخاص ذاتهم ويهتفون للرئيس الأمريكي أوباما، عقب قراري إرسال المساعدات للأكراد في كوباني، والسماح للبشمركة بالعبور إلى سوريا، ويصيحون “فليحيا أوباما!”.. هم أهالي المنطقة.. مواطنونا.
بيد أن السياسات التركية الخاطئة التي لا يمكن الاستمرار عليها في ظل الظروف الجديدة التي دخلنا فيها مرحلة جديدة تاريخية لإعادة بناء الشرق الأوسط هي التي مهدت الطريق لتصل الأمور إلى هذه النقطة. فـ”كبير العقول المدبرة السنية التركي” الذي قال في معرض حديثه عن “كوباني” بأنها “على وشك السقوط”، وكأنه يتمنى حدوث ذلك، بل أولى اهتماماً بالاستخدام العربي لاسم المدينة وقال “عين العرب”، حين الحديث عنها، فبدلاً عن تقييم “المقوّمات الجديدة للشرق الأوسط” بعمق، عمد إلى تبنّي “استراتيجية سطحية” بمعنى الكلمة، وبادر إلى التعامل مع حلفاءه الغربيين بفظاظة، وهيّأ بنفسه الأرضية الخصبة لـ”الزواج الأمريكي – الغربي – الكردي”.
وفي ظل دفع حزب العدالة والتنمية تركيا للعب دورٍ من شأنه أن يضعفها أيضاً في نهاية المطاف، بدلاً عن الاتفاق حول مفهوم “كردستان”، جاءت الملاحظة التالية من أحد قياديي حزب العمال الكردستاني جميل باييك خلال مداخلة على أحد البرامج الحوارية على قناة (strek TV): “إن المجتمع الدولي قد شكل تحالفاً دولياً في مواجهة تنظيم داعش، وطالب تركيا بالانضمام إليه… إلا أن تركيا لم تنضمّ إلى التحالف.. ولكن دول التحالف ضغطت على تركيا لتشارك في التحالف ضد داعش، وتوفر ممراً برياً آمناً لدخول المساعدات، لكن تركيا قابلت ذلك دائماً بالرفض، أو اشترط بعض الشروط لقبول ذلك.. فهدف تركيا من ذلك كان توجيه التحالف ضد قوات روج أوفا في المناطق الشمالية من سوريا والأكراد وحزب العمال الكردستاني. ومن المؤكد أن قوات التحالف والدول المشاركة فيه، رأت المناورات التكتيكية لتركيا واتخذت موقفا واضحاً منها”.
ويضيف باييك أنه إذا ما تمّ النظر إلى التطورات الميدانية في كوباني من زاوية التحالف الدولي، فإن إقامة هذا الأخير علاقات مع قوات الدفاع الشعبي الكردية في شمال سوريا، سلوك وخطوة صحيحة”، ثم يؤكّد أن تلك العلاقات من الممكن أن تتحول فيما بعد إلى “رفقة درب طويلة الأمد”، أي يؤكد احتمالية إقامة “رفقة درب” بين الحركة السياسية الكردية والإدارة الأمريكية في المنطقة، وهذا يشير إلى بدء مرحلة تحمل في طياتها تطورات مهمة من شأنها أن تعرِّض كل شيئ في المنطقة لتغيرات جذرية، إن ما نقوله لم يتحقق بعدُ.. ولكن هل يمكن أن يحدث ذلك أم لا؟ ..للحديث بقية..
صحيفة” راديكال” التركية