بقلم: جنكيز تشاندار
قبل عدة أشهر نشرت مجلة “سورفيفال” Survival التي تصدر عن الجمعية الفكرية البريطانية (IISS) في عددها الصادر في أغسطس/آب – سبتمبر/أيلول مقالة مهمة جدًا للأكاديمي التركي الشهير د. بهلول أوزكان تحت عنوان “تركيا وداود أوغلو وفكرة الوحدة الإسلامية”.
وهذه المقالة بحث جادٌّ يتناول نظرة السياسة الخارجية لأحمد داود أوغلو الذي كان وزير الخارجية عند نشر المقالة، كما يتطرق إلى أدبيات هذه السياسة بأسلوب شامل وناقد، وقد ذكر في هذه المقالة أن الرؤية السياسية لداود أوغلو ليست أصلية بل مستوردة، وهو بهذا الوصف يخالف ادعاءات داود أوغلو والمثقفين الإسلاميين.
وكي يثبت صحة ما ذهب إليه، فقد استشهد بمقالة حملت عنوان “موازين القوى العالمية والشرق الأوسط” لداود أوغلو نشرها في مجلة “العلم والفن” التي تصدر عن جماعة إسكندر باشا في تركيا، وقد انتقد داود أوغلو في هذه المقالة توجُّه تركيا نحو الغرب متخذاً من أطروحات كل من ماكندر وسبيكمان وهاشوفر؛ منظّري الجيوسياسية الإمبريالية الغربية، مرجعاً في طرح أفكاره.
ليس هناك بين الأسماء المعروفة على الصعيد الدولي من يضاهي هؤلاء المنظرين من حيث التأثير على الأجيال اللاحقة باستثناء “هنري كيسنجر” الذي يُعدّ أحد أهم العقول الكبيرة في مدرسة “الواقعية السياسية” ،مع ذلك فإن في أمريكا وأوربا عديداً من الأسماء اللامعة تفكر في “الاستراتيجية” ويستخدمون مفاهيم “الجيوسياسية” ،ومن الممكن القول بأن من أهم هؤلاء يوشكا فيشر، فضلاً عن أنه كان سياسياً فعالاً مثل داود أوغلو، حيث شغل منصب وزير الخارجية الألماني بين أعوام (1998-2005).
وبعد غياب طويل، قدّم فيشر قبل عدة أيام ملاحظات مثيرة جداً في مقال حمل عنوان “الفائزون والخاسرون الجدد في الشرق الأوسط” نشره الموقع الإليكتروني لمنظمة “بروجيكت سنديكيت” الدولية، حيث قال: “الانتصارات العسكرية التي حققها داعش في العراق وسوريا لم تكتف بإفساح المجال للكوارث الإنسانية فقط، بل زعزعت التحالفات في المنطقة، فحولتها إلى نزاعات، بل حتى فتحت حدودها المرسومة للنقاش”، وليس في هذا الكلام “رأي جديد” أو “أصيل”، فكثير منا قيَّم الوضع بهذه الصورة مرارًا وتكرارًا، إلا أن فيشر ذكر مايستحق الوقوف عنده بناء على هذه المقدمة، إذ قال:
“يتشكل الآن شرق أوسط جديد يختلف عن الشرق الأوسط القديم بخاصيتين أساسيتين: سيكون للأكراد وإيران دور قوي، بينما القوى السنّية سيضعف دورها في المنطقة”، ثم يتابع قائلا: “الشرق الأوسط لايواجه فقط نجاحاً محتملاً لقوة (داعش) التي تسعى لتحقيق أهدافها الاستراتيجية من خلال القتل الجماعي والسبي (كما في مثال نساء اليزيديين)، وإنما يتبلور بصورة أكثر جلاء انهيارُ النظام القديم في الشرق الأوسط الذي لم يتعرّض لأي تغيير منذ الحرب العالمية الأولى إلى الآن، وضعْفُ القوى التقليدية التي كانت توفّر الأمن والاستقرار للمنطقة”.
“والضعف السياسي لهذه القوى أدى إلى تغير مفاجئ ومثير في ديناميكية القوى من حيث توزيع الأدوار في هذه المنطقة، سواء بالنسبة للقوى العالمية كأمريكا أو للقوى الإقليمية كتركيا وإيران والسعودية، فمع أن أمريكا والاتحاد الأوربي لا تزالان تصفان حزب العمال الكردستاني بالإرهابي (ومؤسس الحزب لا يزال قابعا في السجن في تركيا منذ 1999)، فإن مقاتليه هم من يتمتعون بالإرادة والقوة اللتين من شأنهما الحيلولة دون توسع وتقدم داعش، وتبعاً لذلك، فإن مصير الأكراد تحوّل إلى مشكلة كبيرة بالنسبة لتركيا، وإن أي انتهاك للحدود التركية، وهي عضو في حلف الناتو، يؤدي بكل بساطة إلى تدخل الناتو حسب مادة الدفاع المشترك بين أعضائها، وإن المشكلة الكردية تحمل بين طياتها احتمال حدوث صراع أوسع، لأن احتمالية إنشاء دولة كردية ستهدد وحدة التراب السوري والعراقي والإيراني جميعاً. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الأكراد اكتسبوا شرعية جديدة في محاربتهم المستميتة ضد داعش. وليس من السهولة بمكان أن ينسوا آمالهم القومية والتهديد الأخلاقي الذي يواجههم حين تضع الحرب أوزارها. وما أعلى من شأن سمعة الأكراد ليس تكاتفهم وجرأتهم فحسب، بل هو تحوّلهم إلى عنصر استقرار في المنطقة وشريك موالٍ للغرب”.
“وهذا الوضع يقدّم للغرب ثنائية على النحو التالي: الغرب مضطر إلى تسليح الأكراد عمومًا لاقوات البشمركة فقط بأسلحة متطورة، وذلك بسبب تجنّب استخدام قواته البرية في حرب يجب عليه أن ينتصر فيها. ومن المحتمل أن هذا التصرف لن يلقى الاستحسان في إيران أيضًا كما هي الحال في تركيا، ولذلك فإن حل المشكلة الكردية يتطلب حنكة دبلوماسية فائقة، إضافة إلى عزم الغرب والمجتمع الدولي والدول ذات الصلة مع هذه المشكلة على حلّها”.
هذه العبارات صادمة وواضحة إلى درجة أنها لا تحتاج إلى شرح أو تعقيب، وإن توصيف فيشر يمكن أن يكتسب قيمة إضافية إذا تم مقارنته مع كلام القيادي الكردي”جميل باييك” في تقريره لقناة “سترك”. إذ يقول:
“… إذا كانت قوات التحالف تسعى إلى محاربة داعش لإيقاف خطرها فهي مضطرة إلى النظر في شؤون الأكراد والاهتمام بهم…”. وهنا مربط الفرس، فالسؤال الذي يطرح نفسه: “هل هذا سيتحول إلى رفقة درب طويلة المدى؟”، وجواب باييك يجب التوقف أمامه بعناية:
” قد يكون ذلك… فمن أراد أن يحلّ مشكلات الأكراد المتمثلة في الاعتراف بحقوقهم الأساسية، كشعب، وبهويتهم القومية وحقوقهم الثقافية واللغوية وحريتهم، فنحن نحل المشكلة الكردية بالتعاون معه، ونحن ليس لدينا أي هاجس يحتم علينا حل المشكلة مع قوة معَّينة دون أخرى، فالأكراد اليوم يعانون من مشاكل تتمثل في عدم الاعتراف بهويتهم ولغتهم وثقافتهم وتنظيم أنفسهم بحرية من خلال قيمهم الخاصة وإدارة أنفسهم بأنفسهم، فمن يخدم حل هذه المشاكل ويحترم الأكراد، فلا بد أن يحظى بقبول الأكراد، أما من لايعترف بحقوق الأكراد فلن يقبله الأكراد، فالأكراد يقبلون من يقبلهم”.
أي إن كان الأكراد باتوا فاعلين بارزين في الشرق الأوسط الجديد مع إيران، فلايمكن لواشنطن أن تتغاضى عن إقامة علاقات مع الحركة السياسية الكردية، أي إن كانت تركيا من القوى السنية التي تضاءل نفوذها وثقلها في المنطقة، فإن ما يجب فعله هو “تغيير النموذج والنظرة” إلى المنطقة، أي:
توجه تركيا نحو التفاهم والاتحاد مع مواطنيها الأكراد، وكذلك مع أكراد سوريا وممثليهم السياسيين عن طريقهم.
- الابتعاد عن سياسة “فرِّق تسُدْ” التقليدية التي تتعامل بها مع المشكلة الكردية، وإحراز موقع “قوة إقليمية” عبر دعم وحدة أكرادها بأكراد بقية أجزاء كردستان.
- تحديد داعش باعتباره من “التهديدات الأولية” والتحرك بالتعاون مع الحلفاء الغربيين.
وإذا لم تُنفذ هذه البنود، فإن عنوان هذا المقال سيظل “علامة استفهام” ويتحول إلى “احتمال خطير”!