سعات كينيكلي أوغلو
للأسف يتحقق، اليوم، واحدا تلو الآخر، جميع المخاوف التي راودتنا عند اندلاع مظاهرات متنزه جيزي بارك بإسطنبول في شهر يونيو/ حزيران 2013، فالأسلوب الذي لجأت إليه الحكومة التركية للرد على الأحداث التي احتقرتها واعتبرتها تمردًا، كان بوابة الشارع المسدود التي دخلتها تركيا بسبب تصرفات الحزب الحاكم.
أشارك في مؤتمر للحديث عن الأوضاع في العراق وسوريا، ومن بين الموضوعات التي نوقشت، أهمية مدينة كوباني (عين العرب) في عملية وقف تقدم تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي (داعش)، والعلاقات التركية – الأمريكية، والمنطقة العازلة التي تطالب بها تركيا، والتنبؤات المتعلقة بمستقبل العراق، أجواء المؤتمر ثقيلة ومتوترة وملبَّدة بالغيوم، والجميع يدرك أن موضوع الحديث في المؤتمر أساسا هو مسألة معقدة ومليئة بمشاكل صعبة وطويلة كذلك، أضف إلى ذلك أن موقف واشنطن المتردد إزاء الأزمة السورية، هو الذي يحدد شروط التوقعات في العامين المقبلين.
عندما يرد اسم تركيا في الأجندة، تجد أن الناس يشعرون بالضيق والضجر؛ إذ كان موقف تركيا من الوضع في كوباني على وجه الخصوص قد جعل العديد من صنّاع القرار يفقدون صبرهم، كما يعاني الغرب في فهم الموقف التركي إزاء الوضع في كوباني، في الوقت الذي يهدد فيه خطر متجسد مثل داعش المنطقة برمّتها، هذا بالطبع إلى جانب ردود الفعل الغاضبة تجاه تصريحات أردوغان التي تضع قوات الدفاع الشعبية الكردية YPG مع داعش في كفة واحدة.
لقد نقلت التطورات الأخيرة الجدلَ الدائر حول تركيا في مراكز مهمة، إلى بعدٍ جديد، فلا تجد أحدًا يتطرّق للحديث عن تفاصيل مثل سبب عدم تقديم تركيا الدعم لحلفائها أو غير ذلك من القضايا، فقد انقضت هذه المراحل وفقدت أهميتها، وأصبح المحور الأساسي للجدل بشأن تركيا في الخارج يدور في إطار سؤال أكثر تأثيرًا، هذا السؤال يتعلق بما إذا كانت تركيا تتبنّى القيم والمبادئ نفسها التي يتبنّاها حلفاؤها أم لا، ماذا يعني هذا السؤال الآن؟ يعني : هل هناك قيم ونظرة ومبدأ للتحرك المشترك تجاه القضايا بين تركيا الحالية وحلفائها؟ ولقد بدأ العديد من البلدان الحليفة لتركيا، بنسب متصاعدة بمرور الوقت، يتساءل “ما شأننا وتركيا؟”. فإذا كانت تركيا لا تحمل القيم نفسها مع التحالف، فحينها بدأت تتعالى أصوات الذين يتساءلون عن ماهية علاقة تركيا بالتحالف، أي أن الإطار الذي يدور الحديث في فلكه هو بشأن تركيا والتساؤلات حول الهوية الاستراتيجية لأنقرة.
لن ينسى الأمريكان عدم سماح تركيا باستخدام قاعدة إنجيرليك الجوية لقصف عناصر داعش، أما الأمر الذي لا يعرفه الرأي العام التركي جيدًا فهو أن الوضع “الجديد” الذي صارت عليه تركيا يحول دون أن ينظر الآخرون بعين الجدّية للمسائل التي تقلق أنقرة بشكل محقّ؛ إذ أن الاعتبار والمشروعية المفقودة يكبّدان تركيا الكثير من الخسائر، يضاف إلى ذلك أن المواقف الحادة التي يتخذها أردوغان أمام الغرب تتسبب في أن يجري تناول تركيا بـ”استهزاء” في المحافل التي يجري الحديث فيها عن مصالح تركيا القومية.
وبعبارة أخرى، فإن كيفية تلقي مفهوم” تركيا الجديدة” في المحافل الدولية يلحق أضرارًا بالمصالح الأساسية لأنقرة، ولا شك في أن أحدًا لايولي اهتمامًا بمصالح تركيا، لاسيما وأن مَن يحكمونها يغضّون الطرف عن تنظيم داعش الذي يقطع الرؤوس، ويمتنعون عن تقديم الدعم لمِن يدافعون عن أرضهم في كوباني (عين العرب)، ويضعون العراقيل في طريق من يريدون دعمهم، وينفقون مئات الملايين من الدولارات لبناء القصور الفخمة فيما لايستطيعون التحكم في الشركات المشغِّلة للمناجم التي يموت فيها مئات العمال باستمرار.
تسير أنقرة بخطى حثيثة نحو أعماق “العزلة القيمة”…
وفي الوقت الذي انتهى فيه المؤتمر وانتقلنا إلى تقييم الوضع الحالي، قابلت صديقًا عاد حديثًا من مصر ودول الخليج العربي، وكان أول ما قاله لي كالتالي: “هناك كراهية سائدة تجاه تركيا في هذه البلاد!”. ولاريب في أنه سينظَر إلى السياسة الخارجية التي تبنّاها حزب العدالة والتنمية، والتي كانت في البداية سياسة “انهاء المشاكل مع الجيران” وسرعان ما تحولت إلى سياسة “انهاء العلاقات مع الجيران”، على أنها “نجاح آخر” في السياسة الخارجية، لكني لا أدري كيف سنفسر هذا النفور الذي صار شائعًا حتى في دول الخليج العربي تجاه تركيا، وربما يكون وزير شؤون الاتحاد الأوروبي في الحكومة التركية، الذي قال إنه سيعطي الجنود الإسرائيليين أحذيتهم في أيديهم وسيخرجهم من الأقصى، قد يعرف الإجابة عن هذا السؤال بشكل أفضل…
كنت قد حذّرت بعض الناس القريبين من أردوغان عندما كانت أحداث متنزه جيزي بارك قد بدأت للتوّ، وكان من الممكن السيطرة عليها، ولم يكن من الضروري أن يكون الواحد منّا كاهنًا ليخمّن أن قمع هذه المظاهرات بالقوة سيوّلد نتائج فادحة، الأمر الذي سيعرّض تركيا لفقدان اعتبارها، وسيؤدي بدوره إلى دفع تركيا فاتورة هذه الأحداث على مستوى السياسة الخارجية، وللأسف، بدأت – اليوم – جميع المخاوف التي كانت تراودنا في يونيو/ حزيران 2013، يتحقق الواحد تلو الآخر، فالأسلوب الذي لجأت إليه الحكومة التركية للرد على الأحداث التي احتقرتها واعتبرتها تمردًا، كان بمثابة بوابة الشارع المسدود التي دخلتها تركيا نتيجة تصرفات الحزب الحاكم، وقد كانت تركيا في تلك الأيام تهبط وتنتقل من “دوري الدرجة الأولى” إلى “دوري الدرجة الثانية” بين الأمم على مستوى العالم، واليوم تسير في طريقها نحو الهبوط إلى “دوري الدرجة الثالثة” بعدما سجّلت في دوري “الدرجة الثانية”. ولاشك أن تكلفة “تركيا الجديدة” تزداد يوما بعد يوم…
صحيفة”راديكال” التركية