آدم ياووز آرسلان
هناك موضوعان أساسيان متداولان في العاصمة الأمريكية، واشنطن، حول تركيا في هذه الأيام، الأول هو داعش، والثاني هو القصر الأبيض، وإن أحد أبعاد موضوع داعش هو الادعاءات التي تفيد بأن تركيا تدعم هذا التنظيم، ويبدو أن دعم تركيا لداعش وتغاضيها عنها ليس مجرد رأي لشخص أو مجموعة صغيرة، وأن هناك أزمة” عدم الثقة” حقيقية بين العاصمتين.
كنت قد ذكرت هذا في مقالي السابق.. وأصبحت النقاشات تدور حول الموقف الذي تتخذه تركيا وليس حول السياسات التي تنتهجها، فما عادت هناك جهات تدعم تركيا وتدافع عنها، ولا أدري ما إذا كان هناك أحد يود أن يكون في نفس الموقف مع أردوغان، وإن الادعاء الذي مفاده أن الجمهوريين الذين ينتقدون أوباما سيدعمون أطروحات تركيا مجرد تمنيات فقط، والرؤية السائدة هي أن أمريكا ستحدد موقفها بناء على السلوك الذي ستنتهجه أنقرة في محاربة داعش.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لأن التاريخ يتكرر بكل تفاصيله.. وكنا قد سمعنا كثيرا من أردوغان وأعوانه في السنوات الأولى من وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قولهم: “لن نكون كأسرى في أنقرة مثل الأحزاب الحاكمة قبلنا”.لكن كما يبدو في الآونة الأخيرة فإن أنقرة سممت أعضاء حكومة العدالة والتنمية أيضا، فقد تركوا الحياة مع الشعب ليسكنوا في القصور، وما عادت المواقف والحراجات تكفي السيارات الفاخرة المخصصة للمناصب.[/box][/one_third]مع أن الجبهة الأمريكية تطلق تصريحات مشابهة منذ عدة سنوات، ولكن هناك نقاشات هذه الأيام حول ما إذا كانت سياسات واشنطن تجاه سوريا ستتغير أم لا.. فالتعليقات مختلفة.
فعلى سبيل المثال بعض خبراء المؤسسات الفكرية، المعروفة بقربها من الإدارة الأمريكية، يفسرون هذا الوضع على أنه نتيجة لانعكاس المباحثات حول إيران، أي أن مسيرة العلاقات بين إيران وأمريكا قد تحدد موقع تركيا أيضا.
أما الموضوع الثاني الذي يدور حوله النقاش في واشنطن حول تركيا، بل حول أردوغان، فهو” القصر الأبيض” ،أو قصر رئاسة الجمهورية الجديد في أنقرة، فثمة أقاويل عجيبة وأغلبها بأسلوب ساخر حول القصر ذي الألف غرفة، ومع الأسف فإن البرامج الحوارية في قنوات التليفزيون يقارن فيها قصر أردوغان بقصور الديكتاتوريين، ولا أدري ما الذي سيقوله الأمريكيون حين يعلمون أن القصر ذي الغرف الألف ما هو إلا النصف الأول الذي تم إنشاؤه من المجمع المخطط له، وينبغي ترك الحديث عن العاصمة الأمريكية لنخوض في الحديث عن أنقرة.
حزب العدالة والتنمية أصبح أسيرا في أنقرة
لأن التاريخ يتكرر بكل تفاصيله.. وكنا قد سمعنا كثيرا من أردوغان وأعوانه في السنوات الأولى من وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قولهم: “لن نكون كأسرى في أنقرة مثل الأحزاب الحاكمة قبلنا”.
وحينها كان أردوغان يسكن في عمارة عادية بحي “كَيتشي أوران” كما لم يسكن نوابه في المجمعات السكنية المخصصة لأعضاء الحكومة، لكن كما يبدو في الآونة الأخيرة فإن أنقرة سممت أعضاء حكومة العدالة والتنمية أيضا، فقد تركوا الحياة مع الشعب ليسكنوا في القصور، وما عادت المواقف والحراجات تكفي السيارات الفاخرة المخصصة للمناصب.
لا داعي لإطالة الحديث في التفاصيل، فالذين جاءوا لتغيير أنقرة استسلموا لها.
لنلقِ نظرة سريعة على التاريخ
إن مصطلح “تركيا الجديدة” الذي يردده أعضاء الحكومة باستمرار يعود إلى أواخر الدولة العثمانية، فهو ليس شيئا جديدا، وحتى مؤسسو الجمهورية التركية استخدموا هذا المصطلح.
والغريب في الأمر أن هناك تشابها لايصدق بين ما نعيشه الآن وبين السنوات الأولى من تأسيس الجمهورية، إذ يجري التحول من المثالية إلى الانتهازية كما كانت في تلك الأيام تماما.
وبعض من كانوا مثاليين وأصحاب أهداف عالية في أيام الفقر والكفاح تغيروا بمجرد أن وصلوا إلى المناصب، وبدأوا يعملون على تحقيق مصالحهم الشخصية والحصول على الأموال، وحلت هذه الأهداف المادية محل الأهداف الدينية والوطنية.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]الغريب في الأمر أن هناك تشابها لايصدق بين ما نعيشه الآن وبين السنوات الأولى من تأسيس الجمهورية، إذ يجري التحول من المثالية إلى الانتهازية كما كانت في تلك الأيام تماما.وبعض من كانوا مثاليين وأصحاب أهداف عالية في أيام الفقر والكفاح تغيروا بمجرد أن وصلوا إلى المناصب، وبدأوا يعملون على تحقيق مصالحهم الشخصية والحصول على الأموال، وحلت هذه الأهداف المادية محل الأهداف الدينية والوطنية.[/box][/one_third]فالفساد الذي قضى على الدولة العثمانية بقي مستمرا بعد السنوات الأولى للجمهورية، وبحسب تقرير الفساد، الذي قدمه أحمد آغا أوغلو لأتاتورك فإن وزير الداخلية في ذلك العهد فريد بك، كان قد أدخل أغنياء الروم والأرمن إلى البلاد مقابل المصالح الشخصية.
وكان وزير التجارة في ذلك العهد علي جناني بك قد حوكم في الديوان العالي (المحكمة العليا).
وصندوق الاختلاسات (الحوض المالي) الذي نسمع به كثيرا في هذه الأيام كان مثاله الأول في ذلك العهد.
وكان وزير البحرية في ذلك العهد إحسان أرياووز، قد قُدِّم للديوان الأعلى بسبب الادعاءات التي تفيد بأنه قبض رشوة من الفرنسيين من أجل المناقصات العسكرية.
ويتساءل المرء بطبيعة الحال من كان “رضا” (كناية على رجل الأعمال التركي من أصل إيراني، رضا ضراب، أحد أبرز المتورطين في فضيحة الفساد في تركيا التي تفجرت في ديسمبر/ كانون الأول العام الماضي) في ذلك الوقت.
ومن النقاط الشبيهة بيومنا هذا هو أن الحكومة كلما غرقت في الفساد توجهت نحو الاستبداد من خلال خطوات منافية للديمقراطية، وإذا قرأتم رواية “أنقرة” التي نُشرت عام 1934 للمؤلف يعقوب قدري كارا عثمان أوغلو، والتي تتحدث عن أعمال الفساد ومحدثي النعمة (الذين تغيروا عندما نالوا النعم) أظنكم ستبتسمون كثيرا.
وقد أورد يعقوب قدري كارا عثمان أوغلو قصصا تتحدث عن تحول بعض المجاهدين إلى مقاولين، وحين تقرأون في الرواية عمن بدأوا ينظرون إلى أحوال البلد والمواطنين من وراء زجاج باللون الوردي بعد أن ملأوا أكياسهم وحققوا راحتهم ونالوا رفاهيتهم الخاصة، ستقولون: “يا له من تشابه كبير بين ذلك العهد والوقت الراهن”.
وكان “يعقوب قدري” الذي ذم الفساد في الكوادر المؤسسية قد أنهى روايته بوصف أنقرة، التي كان يتخيلها، لكنه في المقدمة التي كتبها بعد سنوات عدة أوضح أن الوضع قد ازداد سوءا.
ولا داعي لكتابة رواية جديدة للحديث عما يلهث وراءه اليومَ أولئك الذين كانوا مجاهدين بالأمس.
فكل شيئ واضح وجلي أمام أعين الجميع…
فـ”تركيا الجديدة” التي كان يحلم بها حزب العدالة والتنمية، والتي كانت “البلد النموذجي” في نظر أمريكا قد ضاعت واختفت في القصر الأبيض ذي الألف غرفة.