بقلم: جوكهان باجيك
بحسب الجدل الدائر في الأيام الأخيرة في تركيا، فإن المسلمين هم من اكتشفوا القارة الأمريكية.
هذا الكلام في الحقيقة يعيد إلى أذهاننا ما يمكن تسميته بـ”مسلَّمات الأناضول” التي تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل.
وتقول مسلَّمات جيل الأناضول، الذي هو في طور البحث والتحرّي عن ضالته بعد إخفاقه في ابتكار أي شيئ مهمّ منذ مئات السنين: “إن كل الاكتشافات الجغرافية يعود السبق فيها إلى المسلمين، كما أنهم من اخترعوا أول روبوت اصطناعي، وأن أرض الأناضول حبلى بمختلف المعادن الباطنية التي تقدر بمليارات الدولارات، بالإضافة إلى أن المسلمين أسّسوا أول محكمة عرفتها البشرية، كما أن مختلف العلوم بما فيها الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء والبيولوجيا كلها علوم اكتشفت على أيدي العلماء المسلمين”.
وبشكل مختصر فإن تلك المسلّمات تزعم أن كل ما تفتخر به البشرية هو منجزات وابتكارات كانت من إبداع المسلمين.
ومن الممكن اعتبار مسلّمات الأناضول، هذه، المتجذرة في عقول أهله، مفيدة من وجه من حيث هي أصبحت عامل دفع لكثير من الناس، مع ذلك، فإن الفشل في تقديم مثال للإنجاز للإنسان المعاصر لا يبقِي أمامنا طريقًا سوى العودة إلى الماضي والافتخار به، غير أن هذا يتسبّب في ظهور مشكلة خطيرة تتمثّل في عدم قراءة العالم بشكل صحيح.
لننظر أولاً إلى الأتراك
لنتناول الآن الجزء الخاص بنا من القصة، فأول عهد للأتراك بالثقافة المكتوبة كان في القرن الثامن بعد الميلاد بدءًا بالوثائق المخطوطة المسماة بمسلات أورهون، بينما سبقها نزول القرآن الكريم باللغة العربية بـ200 عام تقريبًا، ما يعني أن الأتراك عندما كانوا يتعلمون هجاء الكلام كانت اللغة العربية آنذاك في أوج كمالها وتوسعها، حتى إن كتاب (Thucyidides) الذي يحكي الحروب البيلوبونيزية (وقعت قبل الميلاد بـ400 عام) والذي يُدرس في بعض الجامعات في الوقت الحالي قد دُوّن قبل أن يعهد الأتراك الثقافة المكتوبة بـ 1200 عام.
ألَم يكن للمسلمين عصر ذهبي؟
لاشك في ذلك، فالفترة التي امتدت من القرن الثامن حتى القرن الـ12 كانت تمثل العصر الذهبي للإسلام والمسلمين، ولاريب أيضًا في أننا نمتلك الحق الكامل كأتراك في تمجيد ومدح ذلك العصر الذهبي باعتبارنا مسلمين، لكن لايخفى علينا أن تلك الفترة كانت تطغى عليها السمة العربية، أضف إلى ذلك أن المجتمعات الإسلامية فيما بعد لم تستطع عقب أفول العصر الذهبي الإسلامي (ذي الطابع العربي) إخراج علماء على الشاكلة ذاتها والمستوى نفسه ما عدا الظروف والشخصيات الاستثنائية.
نعم؛ فالمسلمون دون أدنى شك قد حققوا نجاحات سياسية عقب القرن الـ12، كما هو الحال في عهد الإمبراطورية العثمانية، لكنهم لم يتمكّنوا في أي وقت بعده من تأسيس عصر ذهبي مجدّداً من الناحية العلمية والتجارية.
فالعثمانيون مثلاً استطاعوا تقديم أمثلة ونماذج براقة يقتدى بها على الصعيد السياسي وغيره، لكن لا يُمكن الادّعاء أبدًا بتأسيس عصري ذهبي في مجال العلم ومجالات أخرى على غرار ما كان في القرن الـ11.
مرض الدولة
لقد أصيب المسلمون عقب غروب شمس العصر الذهبي في القرن الـ12 بمرض اسمه “مرض الدولة”، وتسبب هذا المرض في عراقيل كثيرة منعت المسلمين من التفوق في التكنولوجيا والعلوم، فما هو هذا المرض؟
لقد أصبحت الدولة الإسلامية دولة مركزية بالكامل، بحيث أدّى ذلك إلى تحجيم مجال الحريات، فلم تترك تلك المركزية أي متنفس لحرية الأفراد أو العلماء وحتى التجار.
فالسلاجقة الذين اخترعوا مرض الدولة ورّثوه لاحقًا للعثمانيين بصورة عامة، وجاء أتاتورك بعدهم حاكمًا لتركيا الجديدة وكان في غاية السعادة بهذا المرض، ثم وصل هذا الإرث أخيرًا إلى حزب العدالة والتنمية وظل مداومًا عليه حتى الوقت الراهن، فلقد تم تقديس وتضخيم الدولة لدرجة أنه لم يبقَ أي مجال أبداً لا للفرد ولا لحرية النشاط ولا لممارسة الفكر الناقد. وفي ظلّ الفكر القائل بأن “الدولة هي كل شيء”، لايمكن أن يكون هناك فرصة سانحة للابتكار أو ممارسة الديمقراطية بطبيعة الحال.
أما المسلمون المتحوّلون إلى جيش من الموظفين المأمورين بالفعل، فيواصلون حياتهم مقتنعين ومكتفين بما تَوفّر لديهم من مساحة يسيرة من الحرية والرفاهية، وبالذهاب إلى الأراضي المقدسة لأداء مناسك الحج إن سمحت ظروفهم الاقتصادية لهم بذلك، ولذلك فمن غير المنطقي أن ننتظر من الشعوب التي تخاف من الدولة وتقول: “عليّ تجنّب قول أي شيء قد يثير غضب الدولة” أن تخرج مخترعين أو ماركات عالمية كـ “تويتر” على سبيل المثال.
وإذا أردنا أن نتأكد من صحة هذا الكلام فعلينا أن نراقب العالم بدقة، فإننا سنجده واقعًا وحقيقيًّا، إذ إن الشعوب التي ترزح تحت أنظمة ديكتاتورية لم يُسجل لها أي اختراع وإخراج ماركة عالمية، في حين أن كل الاختراعات والابتكارات الحديثة كانت من نصيب الشعوب التي تحكمها أنظمة حرة وديمقراطية.
وإن كان الواقع هكذا..
وإن كان الواقع هكذا، فإن مرض الدولة ما دام جاثمًا على أجساد المسلمين، فإنهم سيظلون دائمًا في حنينٍ لماضي أجدادهم وسيزهون بما قدمه أسلافهم من إنجازات للبشرية، أما هم أنفسهم فلن يقدموا أبداً أي جديد للعالم المعاصر.
نعم… قد يكون الحنين إلى الماضي دافعًا إلى الأمام وعامل تحفيز للإنجاز، لكن يجب علينا ألا ننسى قول الله تعالى في كتابه الكريم: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).(سورة البقرة: 134).
صحيفة” بوجون” التركية