بقلم: شاكر تريم
لا يزال الصراع محتدمًا حول القصر الأبيض المشيّد حديثًا لاستخدامه كمقر جديد لرئاسة الجمهورية. ولا يزال الجدل قائمًا حول تكلفته المالية الباهظة وهيئته المعمارية ووصفه القانوني. بينما لاتجدي التصريحات الصادرة عن رئاسة الجمهورية حول “إتمام الإجراءات القانونية اللازمة الخاصة بالقصر وعدم وجود أية مشكلة إدارية” شيئًا سوى أنها تزيد النار لهيبًا وترفع حدة الجدل .
هناك العديد من الانتقادات توجَّه للقصر، بدءاً من مخالفته للقانون، وانتهاء بعدم وجود رخصة للبناء أو الإشغال. وهذه الانتقادات أدّت بدورها إلى تشويه سمعة منصب رئاسة الجمهورية، حيث إن نقابة المهندسيين المعماريين رفعت 33 دعوى قضائية ضد بناء القصر. ولاشكّ في أن التصريحات الخجول لنائب رئيس الوزراء الناطق الرسمي باسم الحكومة “بولنت أرينتش” بأنه شخصيًّا يعارض التبذير والإسراف، وأن هذا القصر بُني في الأساس ليكون مقرًّا لرئاسة الوزراء، لكنه عندما اكتمل تحوّل إلى مقر لرئاسة الجمهورية، مثيرة للدهشة.
هل يلفت انتباهكم بعض الأسماء التي تطلقها الحكومة على بعض الدوائر والمقرات في الدولة، مثلاً الدوائر التي كانت تحمل اسم “عدلية” أصبح اسمها “قصر العدالة”، والوزارة التي استحدثت مؤخرًا أطلق عليها اسم “وزارة التنمية”. أما مبنى القصر الجمهوري الجديد فأطلق عليه اسم “أك سراي” أي القصر الأبيض، فهل هذه المسميات جاءت بمحض الصدفة؟
لقد صرح وزير المالية بأن تكلفة بناء القصر الأبيض بلغت مليارًا و370 مليون ليرة تركية. وأن سعر الطائرة الجديدة الخاصة بالرئيس بلغ 410 ملايين ليرة. فيا تُرى ألا تعتبر هذه النفقات الباهظة نوعًا من الإسراف في دولة تثقل كاهلها أعباء الديون الخارجية؟
وهل ترون مَن أمر بالأمس ببيع سيارات أعضاء البرلمان والمجمعات السكنية المخصّصة لهم، وقال إنه سيستقلّ الحافلات العامة لأنه يريد أن يكون فرداً من أفراد الشعب. كيف أصبح اليوم حيث يركن إلى الدنيا وما فيها من الحطام؟! ولعل أدقّ وصف لهذه الحال هو ما قاله رئيس حزب السعادة، العائدة جذوره إلى حزب الرفاه الإسلامي بزعامة الراحل نجم الدين أربكان: “إن هذا الأمر أكبر دليل على القارونية”.
صرح نائب رئيس الوزراء الحالي نعمان كورتولموش في السابق، قبل أن ينضمّ إلى حزب العدالة والتنمية، وتحديدًا بتاريخ 26/10/2008 قائلاً: “نحن لن نصبح مثل فرعون ولن نصبح مثل قارون”، لكنه الآن وبعد أن انضمّ إلى العدالة والتنمية وأصبح نائبًا لرئيس الوزراء ذكّره أحد الصحفيين بمقولته السابقة فأجاب بالقول: “إن تلك الكلمات كانت وعودًا قطعتها على نفسي”، فهل من يقطع وعودًا على نفسه بشكل فردي يستخدم صيغة الجمع في كلامه؟!
لا يمكن تشييد قصر بالديون الخارجية
يقول الرئيس رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائه أحمد داود أوغلو إنهم بنوا القصر الأبيض من أجل حفظ اعتبار ومكانة تركيا، لكن غاب عن أذهانهم أن حفظ مكانة تركيا لا يتم ببناء القصور وإنما بتصفير الديون الخارجية. والمثل الشائع يقول: “من يأخذ قرضًا يتلقّ الأوامر” أو “المدين مأمور”.
فتركيا تُظهر للدول الدائنة تقديرًا واعتبارًا لا تظهره حتى لمؤسساتها ودوائرها، وإلا ما هو ذاك السبب الذي يدفعها لكيل المديح لأوروبا وأمريكا. وكيف وبِمَ يمكن تفسير مخاطبة أردوغان للبابا فرانسيس “بقداسة البابا” في رسالته التي بعثها إليه، وهو البابا الذي شبّه الشعب التركي بالنازيين واتهمهم بارتكاب مجازر إبادة ضد الأرمن.
فلو أرادت الحكومة أن تحقق اعبتارًا لتركيا فعليها أن تبدأ تدريجيًّا الوفاء بالديون الخارجية والتخلص منها، وعلى الرئيس أن يجلس في القصر الرئاسي الاعتيادي كسابقيه، ولايجوز أبدًا أن يطغى موضوع بناء القصر على جدول الأعمال بينما الدولة مثقلة بالديون الخارجية. فالعثمانيون في مختلف عهودهم الزاهرة بنوا قصورًا متواضعة بما توفر لديهم من إمكانيات. ثم جاء يوم بدأوا فيه يبنون قصورًا فاخرة وبديون خارجية، وكما تعلمون، انتهت هذه المرحلة بانهيار الدولة العملاقة. أفلا تأخذون العبر والدوس من التاريخ؟!
ألَم يكن رئيس حزب السعادة مصطفى كمالاك محقًّا عندما قال: “إن الديون في تركيا أصبحت تطوّق رقاب الجميع حتى الرضّع، لكن مع ذلك، فإن الحكومة مشغولة ببناء وتشييد القصور”.
إن أسلوب بناء القصور لا يمكن أبدًا أن يلقن الناس في تركيا دروسًا في تجنّب الإسراف والتبذير أو حتى أن يمنعهم من رمي ستة آلاف رغيف خبز يوميًّا. لأن البذخ والإسراف يسوقان الإنسان إلى الكبر والغرور بشكل طبيعي، وليس إلى الاعتدال والتواضع. فمحبو الرياء والتفاخر ليسوا على الطريق القويم والله تعالى يقول في الآية الكريمة “إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا” (سورة الإسراء: 27).
فإذا كانت تصريحات نائب رئيس الوزراء بولنت أرينتش صحيحة فهذا يعني أن منصب رئيس الجمهورية تحوم حوله الشوائب والشبهات. لأن الشخص الذي كان من المفروض أن يكون في أرفع منصب لايمكنه تحمل تلك الكلمات. لذا فعلى الذي يقف وراء هذا المشهد المرعب المباردة إلى الاعتذار علناً للشعب والاعتراف بأنه لم يستطع حفظ الأمانة والتقدّم باستقالته فورًا وردّ الأمانة لأصحابها وأهلها.
حتى الشعب ركن إلى الدنيا بسببهم
يقول النبي صلى الله عليه وسلم “حب الدنيا رأس كل خطيئة”. إن القصر الأبيض أدقّ دليل على ميل حزب العدالة والتنمية لحب الدنيا، لكن الأمر لم يتوقف عند العدالة والتنمية فقط. بل نقل المسؤولون العدوى إلى الشعب أيضاً وفتحوا المجال أمامهم للإسراف والتبذير في المأكل والمشرب والملبس والوقت والكهرباء والماء وفي كل منحى من مناحي الحياة لأن الناس على دين ملوكهم.
لقد أجريتُ في الأيام الماضية رحلة طويلة بصحبة ثلاثة أصدقاء معلمين، أحدهم عالم بالشريعة كان يتحدث إليّ بحرقة ويقول: “لقد كان المعلمون في السابق عندما يجلسون في الغرفة المخصصة لهم يخوضون في أحاديث مرتبطة بالتعليم أو التلاميذ، في حين لاتجدهم اليوم يتحدثون إلا عن السيارة والمال والإجازات والأغراض المنزلية. حيث إن المنصب والمال والمقام عمَت عيونهم فلم يعودوا يرون سواها”. ولقد أيّده بهذا الحديث المعلم الآخر وهو معلم لغة إنجليزية حيث قال إنه يرى الشاكلة نفسها في مدرسته التي يعمل بها. كما أكد أستاذ آخر لمادة الرياضيات أنه اعتاد هذا الأمر يوميًّا من المعلمين في مدرسته.
إن كل فئة من فئات المجتمع شهدت أحداثاً مشابهة لما ذكر أعلاه، ولكن ركون المجتمع المسلم إلى الدنيا إلى هذا الحدّ ليس دلالة خير، فالعلماء العارفون يشددون على ضرورة عدم ميل المسلمين إلى ملذات الحياة الدنيا. وإن الفضول ليعتريني في بعض الأحيان عن السبب في امتناع المسؤولين الدينيين عن الحديث عما يحتويه كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله. ألا يعون لأن ذلك من مهمتهم؟
الله سبحانه وتعالى يقول “وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ” (سورة العنكبوت: 64). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم “لو كنتم تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولكيتم كثيرًا ولهانت عليكم الدنيا وآثرتم الآخرة” (البخاري) .بيد أن أكثر المشاكل والمصائب التي يعاني منها المجتمع اليوم هي بسبب الركون إلى الدنيا. وكما قال يونس أمره: “من كان همّه الدنيا فهمومه ستكون بحجم الدنيا”.
صحيفة”ميلّلي جازيتا”