شاهين ألباي
إذا وجب التذكير: فإن مؤسسي العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين أخبرونا بأن الحداثة والتحضر ستبعد المجتمعات عن الدين وسيحل العلم مكان الدين.
وبدءا من نهاية القرن الماضي وجد علماء الاجتماع أن هذه النظرية لا تتوافق مع الحقائق، ورأوا أن العالم اليوم وإن لم يكن أكثر تدينا من أية مرحلة سابقة فإنه متدين كما كان في السابق على الأقل. ومنهم من حاول التعبير عن أن النجاح في ذلك يكمن في العلمانية، ومنهم من توجه نحو التصريحات العلمية والاجتماعية لبيان السبب في عدم حدوث الابتعاد عن الدين نتيجة الحداثة.
ومن التحليلات التي لفتت انتباهي في إطار الصنف الثاني من علماء الاجتماع مقالة لكل من “جيسي جراهام” و”جوناثان هايدت” وهما من علماء الاجتماع المشهورين في جامعة فيرجينيا الأمريكية المعروفة، وهذه المقالة بعنوان “Beyond beliefs: Religions bind individuals into moral communities” وقد أوضحا في هذه المقالة 3 علل (مبنية على نتائج الأبحاث العلمية على حد تعبيرهم) وهي لماذا يكون أغلب الناس متدينين؟ ولماذا يكون المتدينون أكثر سعادة من غيرهم؟ ولماذا يحبون فعل الخير أكثر من غيرهم؟ ويمكن تلخيص هذه النتائج على النحو الآتي:
يرى البعض (ومنهم العلمانيون المتطرفون في كل مكان) أن التدين يستند إلى الإيمان بالله ورسله، وأن الادعاء بأن الناس يتخلون عن معقداتهم في حال بطلانها علميا ادعاء باطل. فأغلب الناس متدينون لأن المعتقدات الدينية تجعلهم متكاملين مع المجتمعات أخلاقيا ومعنويا.
فالمتدينون أكثر سعادة من غيرهم. فالمعتقدات الدينية في الحقيقة تحمي الناس مما يتعرضون له من التهديدات والمخاوف المتعلقة بالمصير المجهول. ولكن السعادة التي بين المتدينين ليست ناجمة عن الشعور بالحماية، فهي ناجمة عن الروح الجماعية والتكافل اللذين يتآتيان من كونهما جزءا من المجتمع الديني بالأساس. فثمة علاقة متينة بين التدين والأعمال الخيرية بغض النظر عن العمر والجنس والدخل والتوجهات السياسية . وإن التمتع بالمثل العليا المشتركة هو خير ما يفسر كون المتدينين أكثر حبًّا للخير مقارنة بالآخرين.
وإن النتائج العلمية التي ذكرتها آنفا تساعد الذين يجدون صعوبة في فهم كيف تمكنت حركة الخدمة (وهي عبارة عن حركة مجتمع مدني ذات أساس إيماني وهي مستلهمة لفكر الأستاذ فتح الله كولن) من جعل آلاف المتطوعين يعملون بتفانٍ في البلاد البعيدة، وكيف استطاعت خلق مصدر مالي ناتج عن دعم المتطوعين والمتبرعين من مختلف أطياف المجتمع في الأناضول على وجه الخصوص.
كيف استطاعت حركة الخدمة تقديم المنح الدراسية لكثير من الشباب كي يصبحوا أصحاب اختصاصات؟ وكيف استطاعت فتح المدارس في كل أنحاء تركيا وفي نحو 160 دولة حول العالم؟ وكيف تمكنت جمعية “كيمسا يوكمو” (هل من مغيث) من تقديم المعونات الإنسانية لكل مكان في تركيا وللقارات الثلاث أيضا؟ وكيف تمكن “وقف الصحفيين والكتَّاب” من عقد المؤتمرات داخل تركيا وخارجها؟ وكيف أصبح هناك نحو مليون مشترك في جريدة” زمان” وقد دفعوا ما يترتب عليهم من أموال؟ وكيف أنقذ محبو حركة الخدمة بنك آسيا من محاولة إعلان إفلاسه من قبل حكومة العدالة والتنمية؟ حيث باعوا ممتلكاتهم وأودعوا أموالهم في بنك آسيا حيث اصطفوا في طوابير طويلة أمام شعب البنك وهم ينتظرون أدوارهم لإيداع أموالهم في البنك. وكيف تمكنت حركة الخدمة من زيادة قوتها باستمرار كما استطاعت الصمود على الرغم من مضايقات الانقلابات العسكرية في 1980 و 1997؟
فإن هذا العجينة لا بد أن فيها التقدير والثقة للفكر الإسلامي الذي يوحِّد بين الإسلام والحداثة لدى الأستاذ كولن. لكن هذه العجينة لم تتشكل من الإيمان وحده، بل فيها أيضا ما طورته حركة الخدمة من القيم المعنوية والأخلاقية، والثقة المتبادلة والتعاون بين الأفراد. ولذلك فمهما فعل الذين يحاولون القضاء على حركة الخدمة فهي باقية.