عبد الحميد بيليجي
لو كان هناك القليل من البصيرة لما كان من الصعب رؤية الطريق الخاطئ الذي تسير فيه تركيا. ولا شك في أنه حتى المشهد الذي رأيناه في التصويت الذي أجري بالأمم المتحدة على عضوية تركيا بمجلس الأمن الدولي العام الماضي كان كافيًا للتأكد من أن أنقرة حادت عن الطريق القويم.
كانت تركيا إحدى ألمع الدول على مستوى العالم عندما كانت تسير على المستوى الداخلي في طريق الديمقراطية ودولة القانون وتهتم بالتحاور مع جميع الأطراف في الشرق الأوسط، وتولي اهتمامًا بالعلاقات مع قارتي آسيا وأفريقيا وروسيا بقدر ما توليه بعلاقاتها مع الغرب. وكانت وسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم من اليابان شرقًا إلى المغرب غربًا تتحدث عن تركيا بأعذب الكلمات.
وعندما أصبحت تركيا عضوًا بمجلس الأمن عام 2008 عندما كانت تسير على هذا الطريق، دعمتها 151 دولة. ولا ريب في أنه كان مستحيلًا أن تستطيع تركيا فعل الكثير من المهام في هذه الوظيفة المؤقتة التي تولتها لمدة عامين داخل بناء متهالك يعكس اختلال التوازنات في العالم القديم. غير أن تصويت عشرات الدول التي تتبع أديانًا وثقافات وتيارات سياسية مختلفة لصالح تركيا كان بمثابة موافقة دولية على الطريق الذي تسير فيه أنقرة.
وعندما طلبت تركيا تولّي المهمة نفسها عام 2014 صعدت مرة ثانية إلى الميزان العالمي. وبالرغم من أن موقعها الجغرافي والفريق الذي يحكمها لم يتغيرا، فإن نتيجة التصويت هذه المرة كانت الهزيمة. فلم يكن من الممكن اختيار تركيا التي لم تستطع إلا الحصول على دعم 60 دولة. ذلك أن الطريق الذي يسير فيه مَن يحكمون تركيا تغيَّر داخليًا وخارجيًا، وإن كانوا هم لم يتغيروا كأشخاص، وابتعدت أنقرة عن طريق الديمقراطية ودولة القانون، وانحرف من يحكمها عن السياسة المتوازنة خارجيًا وساروا في طريق المغامرة والمخاطرة.
كان مَن يحكم تركيا هو الفريق عينه والحزب نفسه. ولهذا السبب فإن إقدام مَنْ صفّقوا لتركيا بالأمس على توجيه الانتقادات اللاذعة اليوم ليس له علاقة بهوية حزب العدالة والتنمية ومَن يتزعمه، بل الأمر متعلق في المقام الأول بأفعالهم وتصرفاتهم.
كان من الممكن الحيلولة دون تضخم الفاتورة لو كان من يحكمون تركيا استطاعوا تثمين هذا “البطاقة الصفراء”. لكن أردوغان لم يختر الرجوع عن أخطائه ومحاولة العودة إلى الأيام الخوالي التي كان فيه زعيمًا مشهورًا عالميًا، بل آثر التمسك بنظريات المؤامرة التي يقول إنها استهدفته هو وحزبه. ولم يكن من الصعب عليه أن يحرك المشاعر الموجودة أصلًا في العقل الباطن للمواطن التركي من خلال عبارات من قبيل “العالم كله عدونا” و”ليس للتركي صديق إلا التركي”.
وبتأثير الكادر الضيق الذي يوجد به أشخاص يحملون أفكارًا تضحك العالم مثل التحريك الذهني، بدأ أردوغان يرى مظاهرات متنزه جيزي بارك والتحقيق في قضية الفساد والرشوة 17 – 25 ديسمبر / كانون الأول 2013 على أنها انقلاب على حكومته.
وبالرغم من اعتراض عبد الله جول وبولنت آرينتش وغيرهما من مؤسسي حزب العدالة والتنمية على هذه الفكرة التي أطلقوا عليها وصف “فكرة من العالم الثالث”، فإنهم لم ينجحوا. وحاول الحزب الحاكم التستر على أخطائه من خلال النفخ في فكرة المؤامرة عن طريق نشر بعض الأكاذيب من قبيل كذبة كاباطاش والخبر المفبرك الذي زعم وكأن السفير الأمريكي في أنقرة قال يوم فتح التحقيق في قضية الرشوة إنهم “يشاهدون انهيار إمبراطورية”.
وفي تلك الأثناء بدأ لون التحذيرات الخاصة بالسير في الطريق الخاطئ يتحول من اللون الأصفر إلى الأحمر. ونرى كل يوم مؤسسات دولية ووسائل إعلام معتبرة، دعمت أردوغان حتى وقت قريب، تبعث برسائل تشير إلى أن نهاية هذا الطريق ستكون الهاوية.
وقد أعلن من كانوا يدعمون حكومة حزب العدالة والتنمية حتى وقت قريب مثل الرئيس الفنلندي السابق أهتيساري ورئيس الوزراء الفرنسي السابق روكار ورئيس الوزراء الإيطالي السابق بونينو وغيرهم في بيان نشروه الأسبوع الماضي أن تركيا لم تعد نجمًا متلألئا في سماء المنطقة، وأنها فقدت حرية الصحافة وسيادة القانون، وأن أردوغان يسير نحو الديكتاتورية، وأن أنقرة لم تعد تلبي معايير كوبنهاجن التي تعتبر الشرط الأولي لمفاوضات نيل العضوية بالاتحاد الأوروبي.
نشر مؤخرًا مركز” بيبارتيسان بوليسي” الأمريكي المعروف عنه تحاليله المتوازنة وله ثقله في الولايات المتحدة بفضل موقفه البعيد عن الأحزاب تقريرًا أشار إلى المشهد المفزع نفسه: “الاستبدادية المتزايدة والضغط على وسائل الإعلام وادعاءات الفساد تهدد التوازنات الاقتصادية المستمرة منذ 10 سنوات… كما أن تدخل الحكومة في شؤون الشركات المفتوحة على الجمهور يعكس توجهها غير الديمقراطي الذي يؤثر بالسلب أكثر على ثقة المستثمرين الآخذة في الانخفاض. فنرى أن تدفق رؤوس الأموال الأجنبية بدأ يتباطأ.
ولا شك في أن ما فعله أردوغان ضد بنك آسيا يعتبر نموذجًا لكيفية تأثير السياسات الداخلية لحزب العدالة والتنمية سلبًا على الأسواق الكليّة… لقد أضعف أردوغان استقلالية القضاء للتستر على فضيحة الفساد، وحاول تركيع الصحفيين الذين انتقدوا سياساته. كما أن حظر موقعي يوتيوب وتويتر على الإنترنت والعملية التي استهدفت الصحفيين في ديسمبر / كانون الأول 2014 تعتبران مؤشرين واضحين يؤكدان أن حرية التعبير في تركيا في حالة حرجة ومثيرة للشفقة. ولا ريب في أن هذه الهجمات التي تستهدف القضاء وحرية التعبير تضرب الديمقراطية من العمق وربما ينتج عنها في الوقت نفسه نتائج اقتصادية صادمة”.
إن هذه التحذيرات لا تأتي فقط من الغرب، لأنني – للأسف – أسمع التحليلات نفسها في العواصم الشرق أوسطية التي زرتها خلال الفترة الماضية. وكأن كلَّ مَنْ يحب تركيا ويرغب في نجاحها قد ترك أسلوبه الدبلوماسي ليقول بأعلى صوته “نهاية هذا الطريق الهاوية”! فهل هناك من يسمع هذه الصيحات؟