أوغوز كارموك – صحيفة ميدان
صحيح أن الشعب اليوناني لا يحب العمل كثيراً، بل يوصف بـ”الكسل والبلادة”. وصحيح كذلك أن هناك سلسلة فساد تطول كل طوائف المجتمع من قادة البلاد وحتى أصغر صغير فيها، ويستهلكون بترف كل أموال القروض والمساعدات التي حصلوا عليها من الاتحاد الأوروبي، ومع أن اليونان عضو بالاتحاد الأوروبي إلا أن بها قطاعاً صناعياً يشبه القطاعات الصناعية في البلدان الأفريقية الأقلّ نمواً.
لكن كل ذلك لا يكفي للتستر على الأخطاء الفادحة للنظام الرأسمالي العالمي القائم على حكم الأغنياء. لذلك ثمة مجموعة من الأسباب تجعل الشعب اليوناني محقاً في تصويته بـ”لا” خلال الاستفتاء الأخير على تطبيق إجراءات التقشف. ولنشرح الموضوع بالأرقام:
عندما واجهت اليونان أزمتها المالية مطلع عام 2010، وطلبت أولى حزم المساعدات من الاتحاد الأوروبي، كان إجمالي الدخل القومي 341 مليار دولار أمريكي، وكان الدين العام نحو 150 مليار دولار.
وكانت معدلات البطالة عند حدود 10% تقريبًا. ولم تكن حزم المساعدات التي قدمها إليها الاتحاد الأوروبي على مدار خمس سنوات، مع إعفائها من الديون، والتدابير المتخذة بخصوص التقشف دواءً شافيًا لاقتصاد البلاد، وإنما أحدثت تأثير السم الذي يستشري في العروق.
وبحلول نهاية عام 2014 تراجع إجمالي الدخل القومي لليونان إلى نحو 241 مليار دولار. أي أنه تعرض لانكماش بنحو 30% خلال 4 سنوات فقط. وتجاوزت معدلات البطالة 25% بسبب سياسات الادخار والتقشف التي طبقتها الحكومة اليونانية.
لكن الأهم من كل ذلك هو أن قيمة الديون المفروضة على اليونان وصلت اليوم إلى 400 مليار دولار، بعد أن كانت نحو 150 مليار دولار فقط في بداية الأزمة. وكل هذا على الرغم من بيع وتخصيص عدد من الشركات الحكومية، وكان النصيب الأكبر فيها للعملاق الاقتصادي الأوروبي ألمانيا.
حسنًا، لماذا تضخمت الديون بهذا لقدر على الرغم من الإجراءات الاحترازية التي تم اتخاذها؟
لأن فوائد الديون اليونانية وصلت إلى معدلات قياسية. كما أن الديون والقروض الجديدة التي حصلت عليها الحكومة اليونانية بأسعار فائدة عالية، لتسديد ديون أخرى مستحقة، ساهمت بشكل كبير في تضخم الدين العام اليوناني بسرعة كبيرة. ومن اللافت أن البنوك الدولية والمؤسسات الصرفية المانحة للقروض لم تكن المستفيد الوحيد من هذا، وإنما كان لبعض القطاعات الداخلية أيضًا نصيب من الفائدة.
فقد قفز نصيب الطبقة الأغنى، التي تمثل نحو 1% من المجتمع اليوناني، من مؤسسات الدولة في الفترة بين عامي 2010 و2014 من 19.8% إلى 26.7%! (وتجدر الإشارة إلى أن تلك النسبة أكثر بكثير لدى جارتها تركيا حيث تصل إلى نحو 54.3%)
وخلاصة القول هي أن الدواء المر الذي حاول الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والمؤسسات المصرفية الدولية المانحة إجبار اليونان على شربه جرّ اقتصاد البلاد إلى حالة أكثر سوءًا يصعب الخروج منها، وتسبب في تراكم المزيد من الديون التي تعجز عن سدادها، ناهيك عن إنقاذ الاقتصاد.
لذلك قرر الشعب اليوناني التصويت بـ”لا” على الشروط التعسفية الصعبة التي اقترحتها الجهات المانحة على الحكومة اليونانية للحصول على المزيد من القروض والمساعدات، وهم مدركون بحجم الكارثة المحدقة بهم. فأبوا أن يحنوا رؤوسهم أمام ابتزاز الجهات المانحة. وقرروا أن يكون مصير النظام الفاشل سلة القمامة، بدلا عن محاولة إصلاح عبثية لا فائدة مرجوة منها.
ما دور أنجيلا ميركيل في أزمة اليونان؟
على الجانب الآخر، فثمة دور كبير للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في رفض الشعب اليوناني للنظام الاقتصادي المقترح على الرغم من قبوله بمعاناة “الجوع”. فالمستشارة الألمانية التي منحت الشعب الألماني حق الاستمتاع بأزهى عصوره الاقتصادية على مر التاريخ، استغلت الأزمة اليونانية لمصلحة بلادها السياسية والاقتصادية. فبدلاً عن العمل على مد يد العون وإنقاذ اليونان من أزمتها المتفاقمة بشكل جاد، وظّفت الأزمة اليونانية في تعديل قيمة العملة الأوروبية الموحدة ( اليورو) كما تشاء من أجل تحقيق زيادة في حجم صادرات بلادها. إذ بادرت إلى تخفيض قيمة اليورو عبر استغلال الأزمة اليونانية كلما واجه المصدرون الألمان صعوبات، ووفّرت للشركات الألمانية ميزة وفرصة التنافس. كما ساهم ذلك بشكل كبير في تفاقم الأزمة الاقتصادية وانتقالها إلى عدد من اقتصادات الاتحاد الأوروبي، وبخاصة عمليات بيع الأصول والشركات في منطقة جنوب الاتحاد الأوروبي ساهمت في فرض السيطرة الألمانية على الاقتصاد.
حتى أن شركة أيرباص “Airbus” عملاق صناعة طائرات نقل الركاب، أصبحت تحت سيطرة ألمانيا بنسبة كبيرة. ونظرًا لارتفاع معدلات المخاطر في باقي اقتصادات منطقة اليورو، تمكنت ألمانيا من الحصول على ديون وقروض بمعدلات فائدة هي الأقل والأرخص في تاريخ البلاد.
من الممكن القول بأن ميركل حاولت تحقيق ما لم تستطع فعله إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية بقوة السلاح عن طريق رأس المال. إلا أن عملية استفتاء اليونان الأخيرة تمخّضت عن نتائج أفشلت بين ليلة وضحاها كل مخططات ألمانيا.