محمود آكبينار
إن ما تشهده تركيا اليوم متوافق جدًا مع المشاهد القديمة التي شهدتها البلاد في السابق مراراً. إذ لم يكن يتورّع المسيطرون على الدولة عن التضحية بالناس من أجل “إنقاذ الدولة” كلما وجدوا أنفسهم في وضعية صعبة. فهم كانوا يختلقون مخاطر إن لم تكن في أرض الواقع، ويفتعلون تهديدات مصطنعة ولو لم يكن هناك أي تهديد. كما أنهم لم يتورعوا عن ضرب طوائف الشعب بعضها ببعض من أجل تأسيس سلطة الدولة (!) وإخضاع الشعب. وقد سبق أن شهد هذا البلد مثل هذه الأحداث من قبلُ أثناء صراعات الاتجاهات اليمينية واليسارية قبل انقلاب عام 1980 وغيرها مراراً وعلم الناس فيما بعد أنها كانت من تدبير الدولة والعناصر التي تعمل بالاتفاق مع الدولة.
كان الرئيس التركي الأسبق وقائد انقلاب عام 1980 كنعان أفرين الراحل قد صرح في الماضي قائلًا: “لقد انتظرنا حتى تكون الظروف مواتية للانقلاب”. فهذه هي المسألة الأساسية؛ إذ إن من يمارسون العمل السياسي ويسيطرون على مصادر القوة في الدولة ينتظرون أن تكون الظروف مواتية حتى يستطيعوا تنفيذ بعض ما يريدون تنفيذه، أي أنهم ينتظرون أن تراق الدماء وترتفع أصوات الاشتباكات وتزيد الصراعات حتى يستطيعوا إقناع الرأي العام بما يخططون لتنفيذه…
جرّ الجماهير باسم الدولة!
إن الذين لهم مشاكل مع الدولة ويتعرضون لصفعاتها يدركون جيدا أن الأمور تجري على هذا المنوال. لكن الناس يفكّرون بشكل مختلف عندما يكون الحزب الذي يؤيدونه أو أصحاب الفكر الذي يتبنونه مسيطراً على الدولة ومنصهراً في بوتقتها انصهارًا كليًا. والدولة التي كانوا ينتقدونها حتى وقت قريب ويدّعون أنها “تتعاون مع القوى الخارجية” تصبح “وطنية” بين ليلة وضحاها. لكن أحدًا لا يريد أن يرى أن تولي السلطة في هذه البلاد بات يعني منذ فترة طويلة الانقطاع عن الشعب ونصب العداء له. ففي تركيا يجري استغلال الدولة من أجل إعادة تشكيل وتصميم الشعب وإفراغه في قوالب معينة وتأديبه رغم أنفه.
تعتقد الأحزاب الحاكمة في البداية أنها من تستخدم جهاز الدولة لصالحها، لكنها تدرك بعد فترة أنها هي التي استسلمت للدولة-الدولة العميقة، لكن لا يبقى أمامها مجال للتحرك. وفي هذه المرة تبادر إلى إضفاء الصبغة الشرعية على موقعها لتواصل جر الجماهير التي تدعمها باسم الدولة.
مفهوم المشاكل والذرائع المفتعلة
تلخص هذه العبارات ما يحدث في هذه الأيام: “إذا استلزم الأمر يمكن أن أرسل أربعة من رجالنا إلى سوريا ليطلقوا ثمانية صواريخ على أراضي تركيا، وبذلك نكون قد وجدنا ذريعة لإعلان الحرب على سوريا” (خاقان فيدان هو الذي قال هذا أثناء الاجتماع السري الذي تسرب محتواه وتم نشره في الإنترنت).
“يمكن التضحية أحيانًا بشخص أو جماعة أو فئة من أجل الحفاظ على سلامة الدولة”. (قاله خير الدين كارامان الذي يوصف بأنه أمين الفتاوى لحزب العدالة والتنمية).
“علي أن أقول لكم إن ثمة طرقاً مروعة تلجأ إليها الدولة من أجل حماية نفسها”. (أحد مستشاري رئيس الوزراء).
“أرى أن المدعي العام زكريا أوز (الذي أشعل فتيل كل من قضيتي تنظيم أرجينيكون وملفات الفساد) يعدّ نهايته بنفسه لتكون كنهاية المدعي العام مراد جوك الذي عثر عليه ميتًا في منزله العام الماضي” (نائب برلماني عن حزب العدالة والتنمية).
“أحيانًا تجلب الجرائم مجهولة الفاعل الطمأنينة إلى البلد، فيهدأ الجميع ولا يتجرأ أحد على الكلام” (مراسل إحدى وسائل الإعلام الموالية لحكومة العدالة والتنمية).
لا يزال المفهوم الذي ينص على أنه يمكن التضحية بالأرواح “الصغيرة” من أجل السياسات “الكبيرة!” ساري المفعول إذ يستمر تفجير القنابل لقتل العشرات.
يبدو أننا سنشهد حتى إجراء “الانتخابات المبكرة” تصعيدَ العواطفِ القومية وحسِّ العداء للأكراد بعناية، كما ستستمر محاولة تنويم الرأي العام من خلال الفوضى والأزمات المصطنعة.