عبد المجيد بوشبكة (*)
لم يدم فرح الفرحين بنجاح التجربة الإسلامية في تركيا كثيرا ويحمل القدر للمسلمين مفاجآت متتالية. فكل يوم يمر والنكبات تكبر داخل عالمنا الإسلامي ولا يندمل جرح حتى نهتز لآخر. وكثيرا ما علق المسلمون علي هذه التجربة آمالا عريضة، نسأل الله تعالى أن ينتقم ممن كان سببا في وأد هذه الآمال.
إن ما يقع في تركيا اليوم من أحداث متسارعة يدفع إلى الحيرة والحسرة والتساؤل: من وراء هذا النكوص؟ لماذا وبعد ما كادت تركيا تصبح تجربة نموذجية ناجحة بكل المقاييس، يتم تشويه كل الصور المشرقة وتمزيق الأوراق الجديدة التي كتبت باسم الحركة الإسلامية؟ قبل سنوات وبعد الارتباك الذي شاب السياسة الخارجية وما تبعه من فشل في عدد من الملفات الدولية و الإقليمية الشائكة، بدأت العواصف تضرب أركان الدولة بدءا بمجال الأمن وما عرفه من قرارات غير مفهومة ولا محسوبه، أبعدت زمرة من الكفاءات وعطلت عددا من الخبرات بدت معها البلاد اليوم عاجزة عن رد الاعتداءات السافرة التي تعيشها في عقر دارها. كما عمق هذا الشرخ ما تلا ذلك من قرارات تهم مجال العدل والقضاء وصفتها جهات عدة بأنها تدخلات مخالفة لكل معايير وقوانين البلاد. بعد ذلك عمت البلاد ما عبر عنه المعارضون بـ “عملية تكميم الأفواه” ومعاقبة المخالفين في الرأي من كل أطياف المجتمع الشيء الذي جعل الشعب يعيش قصة : ” من ليس معي فهو ضدي… ” ومعاناة شريحة معتبرة من رجال المال و الأعمال من هذه السياسة غدت حديث الناس إلى اليوم. لكن قاصمة الظهر في هذا الواقع الملغوم هي قضية الصحافة خاصة وحرية التعبير بوجه عام. هنا أجدني تألما على واقع كنت يوما من الشغوفين بالدعاء لنجاح تجربته السياسية. ثم إنني أتساءل مذعورا ؟ إذا كان هناك من يخطط جاهدا لإفشال كل التجارب الناجحة في بلاد المسلمين؟ فكيف يجد هذا التخطيط طريقه إلى التنفيذ وبسرعة فائقة؟ بل قد أُسوغ لنفسي القول: هل عادت سلطة بعض الجنرالات إلى القواعد الخلفية، وبخطط جديدة جهنمية، مستفيدة من الظروف الدولية ؟ وما حقيقة ما راج عن الدولة الموازية ولماذا غُيبت هذه المقولة مؤخرا؟ ما المقصود بالدولة الموازية؟ هل تخريج آلاف من الأطر الكفؤ والنزيهة والزج بها في كل مجالات الحياة، ميزة ورافعة أساسية لتقوية كل أركان الدولة يستحق من ورائها كل أوسمة الوطنية والشرف ، أم هو خطيئة ودولة موازية ؟ أم إن الدولة الموازية هي التي جمعت آلافا من المتهمين بشتى أنواع الفساد والمعربدين في المنابر، حسبما تواثر من أخبار داخل وخارج البلاد، دون تكذيب ؟ أم أن كل الأطراف الغيورة على مصلحة تركيا مطالبة بالعمل على الكشف عن حقيقة الدولة الموازية ومن وراءها ولماذا، قبل فوات الأوان ؟
إن عددا من المهتمين والمحللين ينظرون بعين الريبة لهذه الأحداث ، كما جاء في المقال القيم للباحث المغربي “الأستاذ إدريس الكنبوري” حول علاقة السياسي بالدعوي وإلى أي حد يستطيع السياسي الوفاء بوعوده أمام تحديات الواقع؟ و إلى أي مدى استطاعت تلك التجربة الحفاظ على إسلاميتها من جهة، ثم الوفاء للبيئة التي أنتجتها واحتضنتها وساهمت في نجاحها من جهة ثانية؟ وهل خدعت الجماهير التي آمنت بها وعلقت عليها كل آمالها، أم أنها غُلبت على أمرها ودخل على الخط من ليس من أهلها؟ وإن صح ذلك فهل ننفض يدنا من هذه التجارب ونبكي على سوء حظنا و نُجدد العزم على المضي قدما؟ ولسان حالنا يردد: ( لاحول ولا قوة إلا بالله ، و إن مع العسر يسرا)…؟ أم نضرب عن كل ذلك صفحا ونرفض مجرد الحديث عن الأخطاء ناهيك عن الحديث عن الفشل؟ فنعجز حتى عن مجرد النقد الذاتي الذي يجعل الرجال والتجارب تعرف بالحق ولا يعرف الحق بها؟
بين لفحات هذا الواقع و ونفحات التاريخ تتزاحم صور للعدالة الاجتماعية التي بقيت شامة في جبين حضارتنا وعربونا لوفاء رجالها إلى ديننا الحنيف الذي ينص على ذلك: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل). ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) ليس عبثا أن يقول بن خلدون ويردد غيره:” العدل أساس الملك”. إنها أمانات طالما تشدق الناس بها، لكن المؤمن مطالب بتحريرها. أما أن نطالب رجال السياسة بصفات الكبار فهذا ضرب من المحال. كما أثر عن خليفة المسلمين عمر رضي الله عنه : (إن رأيتم في اعوجاجا فقوموني) فيقول له رجل من عامة المسلمين: لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بحد سيوفنا. ثم يجيب عمر: ( الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقومه بحد سيفه)، أن نتحدث عن هذا الأمر فهو أفق وإن كان واقعا لايجرؤ أحد اليوم على ادعائه. وأين من يدعي الخلافة اليوم من قوله: (إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم، ويشتموا أعراضكم، ويأخذوا أموالكم، ولكن استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم -عليه الصلاة والسلام-، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له على أن يرفعها إلى حتى أقص منه…) وأين ولاة الأمر اليوم من أفعال ولاتهم وعمالهم وأبنائهم مما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن ابنه عبد الرحمن لما شرب الخمر بمصر وذهب أخوه إلى أمير مصر عمرو بن العاص ليجلده الحد جلده الحد سرا، وكان الناس يجلدون علانية، فبعث عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص ينكر عليه ذلك ولم يعتد عمر بذلك الجلد حتى أرسل إلى ابنه فأقدمه المدينة فجلده الحد علانية..أين المسلمون من قولته التي طارت في الآفاق: ( أصابت امرأة وأخطأ عمر) وذلك حينما طالب وهو على المنبر بتقليل مهور النساء، فقامت امرأة من آخر المسجد، فقالت يا أمير المؤمنين إنّ الله يقول: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئا) فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر. أين وأين…
نعم لقد كان يضرب المثل بالعدالة في عالمنا وكان الكبراء والأمراء وأصحاب القرار في العالم حين يزورون بلادنا ويطأون أرضنا ويخالطون “قصور” ولاة أمرنا يروا آثار سياسات ولاة الأمر بادية في واقع الناس، وعدلهم فاق توقعات الناس.
روى الطبري وغيره عن الهرمزان أحد قادة الفرس عهد يزدجرد الثالث، أنه لما استسلم ونزل على حكم الخليفة عمر زمن الفتح الإسلامي، لما وصل بيت عمر لم يجدوه فيه، فسألوا عنه فقيل لهم: إنه في المسجد، فجاءوا إلى المسجد فلم يجدوا فيه أحدا، فرجعوا فإذا بأولاد يلعبون فقال لهم الأولاد: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد عمر، قالوا لهم: هو في المسجد نائم، فرجعوا إلى المسجد فوجدوه نائما متوسدا برنسا له ودرته معلقة في يده، فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا النائم وجعلوا يخفضون أصواتهم ، فقال الهرمزان: وأين حجابه وأين حراسه؟ فقالوا: ليس له حجاب ولا حراس ولا كتاب. ولا ديوان…فلم يتمالك نفسه وصدح بقولة الشهيرة: (حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر). وهذه القصة وأمثالها ما جعلت شاعر النيل حافظ إبراهيم ينشد قصيدته الرائعة:
وراع صاحب كسرى أن رأى “عُمرا” بين الرعية عطلا وهو راعيــــها
وعهده بملــوك الفـرس أن لـها سورا من الجند والأحراس يحميـها
رآه مستغرقـا فــي نومــه فرأى فيه الجلالة فــي أسمى معانيهــا
نعم على الذين يمثلون أمل الأمة أن يعلموا أن وجود العدل وانتشار الحرية في بلادهم ميزة عالية لأنها أمان للضعيف وطعام للفقير وعزة للحاكم وفخر للمحكوم. إن الصور التي تلتقطها العدسات ليست إلا جزءا صغيرا مما تراه العيون، وعين الله لاتنام. فكيف ينزعج مسؤول من عيون الكاميرات أو يرتبك من أصوات المكبرات إن كان مؤمنا حقا. وإلا فأي إيمان هذا الذي يدور مع الرياح في كل مناسبة ؟ وكيف لمن هذا حاله، أن يحظ باحترام الناس فضلا عن حبهم؟
ونحن نتجرع واقعنا الحزين، لابد أن نتحلى بالإيمان المطلوب للتوجه إلى مسبب الأسباب كي يسهل لنا سببا إلى النجاة والثقة في النفس في العاجل والآجل، ولا ينبغي أن نغفل عن نسيم النفحات العطرة التي جاء بها ديننا الحنيف الذي وعدنا بأن الأمة لن تعدم النماذج الناجحة في كل زمان ومكان، وقد تخرج من تحت الرماد مثل الفسائل الربيعية ولسان حالها يردد قصيدة أبي البقاء الرندي من أبناء القرن السابع للهجرة في رثاء الأندلس بعد سقوط غرناطة أخر حصونها سنة 1492م:
فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ
مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ هي الأيامُ كما شاهدتها دُول
ولا يدوم على حالٍ لها شان وهذه الدار لا تُبقي على أحد
إذا نبت مشْرفيّاتٌ وخُرصانُ يُمزق الدهر حتمًا كل سابغة
كان ابنَ ذي يزَن والغمدَ غُمدان وينتضي كلّ سيف للفناء ولوْ
(*) د. عبد المجيد بوشبكة/ “مختبر الدراسات الإسلامية والتنمية المجتمعية”
جامعة شعيب الدكالي/ المغرب.