بقلم: سفيان أبو أمير – الجزائر
هكذا هي السياسة والساسة يوم معك وآخر عليك، فأينما توجد مصلحتهم يدسون أنوفهم كالنعامة حيث توجد تلك المصلحة ولا يقيمون أي اعتبار لا “لخالقهم” ولا “لبني البشر” أمثالهم. فهم يتناسون كل ما يقولونه في خطاباتهم الجماهيرية وفي لقاءاتهم التلفزيونية، فتلكم هي وسائلهم في الوصول إلى أهدافهم، فتارة يرفعون القرآن وتارة يتخذون الشيطان خليلاً. مرة يصفونك بالأخ والصديق والسند، وأخرى يصفونك بالعدو اللدود وخائن الأمانة أو عدو الوطن، وقد يصل الأمر إلى جعلك زعيم مجموعة إرهابية. نعم يفعلون كل هذا من أجل مصلحتهم وبهدف البقاء في العلية التي وصولوا إليها بطرق ملتوية.
ولشرح المسألة أكثر، رأيت أن آخذ في غمار العلاقة بين حزب العدالة والتنمية في تركيا ومؤسسات المجتمع المدني فيها، وعلى رأسها مؤسسات حركة “الخدمة” التي تستلهم فكر الداعية الإسلامي محمد فتح الله كولن. فعندما قرر مؤسسو حزب العدالة والتنمية الرئيس السابق لتركيا عبد الله جول، والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، ونائب رئيس الوزراء السابق بولنت أرينتش الانسلاخ عن حزب الرفاه التابع لأبي الإسلام السياسي في تركيا نجم الدين أربكان الراحل كانوا يعلمون أنهم سيواجهون أطرافاً عدة في السلطة وخارجها، خاصة المؤسسة العسكرية حامية العلمانية، ومنظمة أرجنيكون (الدولة العميقة) وحتى أنصار الحزب الذي انسلخوا عنه؛ لأنهم يعتبرون أردوغان وجماعته خانوا الأمانة مع رئيسهم نجم الدين أربكان وصعدوا على أكتاف منجزات حزبه.
وعلى هذا عمل أردوغان وجماعته من كوادر حزب العدالة والتنمية على إيجاد حليف قوي على مستوى القاعدة الاجتماعية؛ لأنها الأساس في أي عمل سياسي أراد النجاح والوصول إلى أهدافه المرسومة فوقع الاختيار على حركة “الخدمة” لكونها من أكبر مؤسسات المجتمع المدني نشاطاً على المستوى الاجتماعي، لا أقول فقط في تركيا بل حتى على المستوى العالمي. فلا يوجد مثيل لها لا من حيث الفكر المرتبط بعلامة بحجم فتح الله كولن ولا من حيث المؤسسات الهادفة بأهداف إنسانية نبيلة من مؤسسات تربوية، صحية، وحتى اقتصادية صناعية.
قبل أفراد الخدمة الدخول في حلف غير مباشر مع حزب العدالة والتنمية لا لمصالحهم الشخصية أو حباً في السياسة والسلطة، فلو أرادوا ذلك لأسسوا حزباً سياسياً قبل أن يؤسسه أردوغان ولوصلوا إلى السلطة بكل أريحية، لكن أهداف هذه الحركة اجتماعية خالصة تعني بخدمة الإنسان في العالم بأسره، مع اختلاف ألوانه وأطيافه. وكان الدافع الأساسي في دعمهم لحزب العدالة والتنمية هو اعتقادهم الخاطئ ـ حسب تقديري ـ بأن أردوغان هو الرجل المناسب الذي تنتظره الأمة التركية لخلاصها من براثن المؤسسة العسكرية والعلمانية المتطرفة ـ ولا أعني بكلامي العلمانيين المعتدلين الديمقراطيين ـ ونقل تركيا إلى مصاف الدول الديمقراطية التي تحترم الحقوق المدنية لمواطنيها وتعترف بحقوقهم الإنسانية وتحترم حرياتهم الفردية.
فعلاً هذا ما تحقق في السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، أي من 2002 إلى 2010، حيث عرفت تركيا تطوراً ملحوظاً على جميع المستويات، فاستبشرت الخدمة والشعب التركي خيراً بقادة حزب العدالة والتنمية، إلا أن أردوغان بعد النجاحات التي حققها – وأنا أعلم علم اليقين أن جلها كان بمساعدة رجال الخدمة الأكفاء – وبعدما قويت شوكته وتغلغل في السلطة وكثر الراكبون لموجة حزب العدالة والتنمية دون أن تكون لهم أية نية خالصة لا لهذا الحزب ولا للدولة التركية في حد ذاتها، حيث بدأ هؤلاء في استغلال الحزب والسلطة لأغراضهم الشخصية، فجنوا ثروة طائلة من وراء ذلك وعلى حساب رفاهية الشعب التركي الذي وضع فيهم ثقة عمياء.
وبعد أن طفت على السطح قضايا الفساد الكبرى في 17 ديسمبر/ كانون الثاني 2013، وبحكم أن الخدمة لها مؤسساتها الإعلامية رأت أن تقف وقفة حق لتقول لمن ساندتهم بالأمس عندما كانوا على جادة الصواب “توقفوا! فقد أخطأتم وخنتم الأمانة التي وضعها الشعب فيكم”، الأمر الذي لم يعجب سيادة الرئيس واعتبرها مؤامرة ضده وضد عائلته، لأنه حسب التقارير الإعلامية التركية فهو وعائلته وبعض وزراء حكومته منغمسين في هذا الفساد حتى أعناقهم، فقرر وحاشيته للتستر على هذا الفساد باتخاذ حركة الخدمة كبش فداء، فراح يحرك آلته الإعلامية والدعائية لتشويه من أوصلوه إلى الحكم بالأمس ونعتهم بشتى الأوصاف منقبيل “حشاشون ” “إرهابيون” مصاصو دماء” وغيرها من الأوصاف القبيحة التي لا تليق برجل هو رئيس جمهورية لبلد كانت في الأمس القريب أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ ـ الإمبراطورية العثمانيةـ
المهم من كل هذا، أنه وبعد مرور سنة ونيف على هذا الصراع المحموم الذي شنه الرئيس أردوغان على حركة الخدمة للنجاة من طوق المحكمة والعدالة بعد أن فاحت قضايا الفساد من وراء جدران قصره الأبيض، بدأت أوراق أكاذيبه تجاه حركة الخدمة تتساقط مثلما تتساقط أوراق الأشجار في الخريف كان أبرزها تصريح نائب رئيس الوزراء السابق بولنت أرينتش بأن حركة الخدمة ليست حركة إرهابية، وكذا تصريح الرئيس السابق عبد الله جول الذي قال “لم يعد من السهل التفاهم مع رجب طيب أردوغان”.
ويُعتبر الهجوم الأخير على المؤسسة الإعلامية الخاصة ” كوزا – إيبك” أكبر دليل على العشوائية التي يتخبط فيها أردوغان. وإني أراها الحبل الذي يلف حول عنق الرئيس ويضيق عليه الخناق يوما بعد يوم.