أحلام المرعي
زحفت أصابعها كخيوط الشمس في شتاء غائم تداعب الأحرف الغائبة على ورقة لاح منها وجه المدى ضبابياً، تهمس بين أروقتها وعداً اغبرّت حروفه عبر الزمن واصفرّت أطرافه معلنة لحظة القـِطاف. تشد قبضتها حول ذاك الكائن المتعب، تلجمه ليصهل الأفكار فتدعوها لوليمة الفضيحة حرفاً حرفاً، تعتريها الرغبة في زجِّ أبجدية الصلاة عنوة بين السطور، تجرب لعنة السهام إذا ما تحولت إلى أسماء إشارة مبنية للمجهول، تؤدي آخر صلاة لها تحت عرش حتفها وبين أصابعها سجد العبد الخاضع لمشيئتها على رقعة متخمة بقطرات المذلة لتغسل الخطيئة بالتوبة، تخاطب الصقور المغترة في عليائها والحائمة في مجدها. تنتزع أول غصة من حلقها وتقول في صوت لاهث:
“محمومة بالدهشة تلك الألوان المتغلغلة في مسام اللوحات، ترسمك بأصابع لزجة. تبدي أبهى عريـّها لفتنتك أيها المحاصر ببزة الرياء، تضحك، ويظن ذاك المسلوب بوهم الرهبة في حضرتك أن رياحه الموسمية قد حان هبوبها وإذ بك تصفق وتصفق ومن ثم تولـّيها غيابك. وكيما تبذر الوقت تنساق وراء جنون الشغف في قاعة سمفونية تشحذ السكينة لروحك. لا ينضم لكومة همـّك رقص العلامات على نوتة موسيقية أو جرح وتر وخلجات فنان، تستدعي الكلمات على قصاصة تلازم جيبك المخفي مرفقة بقلم فاخر جاءك هدية ملحفة بالمراوغة، تصب الثرثرة في قعر آنيتك وتهرقها كسحابة دخان أمطرت ذهباً، يصفق لك الحضور بعد أن تأكدوا أن الأصابع اجتمعت كاملة في صف منضم إجلالا لرمزهم، يتهامزون يمنة ويسرة “بعد ذلك أين سيرحلون؟”، هم ظلـّك التابع يهجرون العرض ومن خلفك يهتفون وتنعت أصواتهم لحناً تهادى كزخات الرماد على مقاعد الخيبة.
تطرأ في دهاليز نفسك فكرة عاجلة تقتحم بها خلوة ذلك المتعب، تنبش بين أوراقه تبحث بين السطور عمن يريدون أن يوقعوا بك، تسترق السمع إلى خفايا نفسه فيصب قطرانها في سراديب أذنك، يتأجج غضب المارد في داخلك فتعزم على الإيقاع به في مكر خديعتك تتخفى برداء النصح وتنفث وسوستك في رأسه، تصور له سوء الخاتمة في ظلمة حالكة بين جدران مرصّعة بالحديد تخرج منها سياط من لهيب،وإذ به يغتال أبجديته بعدما أشار لإيحاءاته بالانسحاب، تنتشي بنصرك وترتشف نخب هزيمته الموجعة.
امتطيت صهوة غرورك إليهم، ولغاية لا تدركها سوى نفسك جمعت شملهم بعدما تشتتوا، تهبط نواياك بينهم وتزحف أفعى المكيدة بين أحداقهم تنقب عن الضوء المشعّ فيها.
يملُّ ترفك يقظتهم فتفرد عباءتك فوق صمتهم، تشير إليهم بومضة لمعت من ضفة عينك الواحدة أن يجثوا، ترفع إصبعك حيث تجمد ذهولهم، تستلّ أبصارهم وتخبئها في غمد الظلام، تتسلل أحلامهم فينبثق منك مارد الخوف يفتش عن تلك الرؤى، تتلمظ أنيابك المغروسة في نخاعهم فتمتص النور الذي ينبعث من رائحة أجسادهم، أكنت تهدر الحيلة كيما يفشيك خوفك فتسارع إلى تغليفه بسرِّ قوى الكون؟
إذاً ها أنت ذا تتربع المنبر عليَّاً تظن نفسك الوحيد في هذا المكان ومن حولك تشع عيون المتربصين الساهرة في ليلك الطويل تحيطك كالأغلال لا تغريهم رائحة الخبز المتعفن التي تفوح من يديك المتعرقة إذا ما أردت إطعامهم, بل سيتسللون كشعاع النور من بين أصابعي إلى مخدعك ويسوقوك إلى مذبحي لينحروك”.
حالما انتهت من وليمتها و تنح العبد الخاضع من قبضتها هامت في روحها وارتقت جبال الصمت حيث تهب الرياح العاتية فتنتشل الرقعة المتخمة بقطرات المذلـّة بعدما غسلت الخطيئة بالتوبة تؤدي آخر صلاة لها تحت عرش حتفها وتمضي إلى كونها حيث ينتظر المتربصون بها.