يرد المفكر التركي فتح الله كولن على المزاعم التي تزعمها الحكومة التركية بوجود طموح سياسيى وتغلغل حركة الخدمة داخل أجهزة الدولة..
س: نفيتم دائما وجود أي طموحات سياسية لديكم، ولكن هل ترون أن وجود مؤيدين لكم داخل أجهزة الدولة التركية يصب في صالحكم؟
ج: أولا، لا بد من التنويه بأن الخدمة منذ نشأتها لم تَسعَ إلى أي هدف سياسي، ولكنها سعتْ إلى خدمة الإنسان من خلال تنمية قدراته في المجالات التعليمية والاجتماعية والثقافية، واستثمرت كل وقتها وطاقتها في سبيل تحقيق هذه الغاية. وتصدّت لحل المشكلات الاجتماعية انطلاقًا من الإنسان عن طريق التربية والتعليم.
طالما ذكرتُ في دروسي أن لدينا ما يكفي من المساجد -التي كان أغلبها فارغًا في السبعينات- ولكن ليس لدينا ما يكفي من المدارس. لذا حضضتُ الناس على فتح المدارس لسدّ هذه الثغرة. ولو كان لدينا أي هدف سياسي لكانت قد ظهرت بوادره خلال الأربعين أو الخمسين سنة الماضية كإنشاء حزب سياسي مثلًا. ولقد عُرض عليّ وعلى الكثير من إخواني -في أوقات مختلفة- العديد من المناصب السياسية، وتم رفضها جميعًا. ولقد كان بإمكان «الخدمة» -لو كان لديها طموحات سياسية- أن تؤسس حزبًا سياسيًّا كما فعل الآخرون، وتستثمر الظروف المواتية عام 2001م، في وقت كانت الأحزاب الأخرى تتهاوى واحدة تلو الأخرى… أو على الأقل لكان لها عدد لا بأس به من المؤيّدين داخل الأحزاب السياسية التي حكمت في الماضي أو الحزب الذي يحكم الآن، ولكنها لم تفعل ولم ترغب في ذلك أيضًا.
شخصيًّا لا أتبنّى قناعة ممارسة السياسية باسم الدين، أو توظيف الدين لتحقيق مكاسب سياسية، أو ممارسة السياسة بشعارات دينية، وهذا لا يعني أنني أرى أن الانخراط في مجال السياسة أمر غير مشروع. فمع أننا لا نشارك في السياسة ولا نقوم بإنشاء حزب سياسي، لكن لا نرى منع أحد من القيام بذلك؛ لأنه في الديمقراطيات لا يمكن ممارسة السياسة من دون أحزاب، طبعًا الخدمة ليس عندها هدف سياسي بمعنى تأسيس حزب، لكن القيم والمبادئ التي حاولتُ توضيحها آنفًا، والتي تشكل الديناميكية الأساسية للخدمة، تتلامس مع الممارسة السياسية بطريقة أو بأخرى.
وأفراد الخدمة باعتبارهم مواطنين يتمتعون بكافة حقوق المواطنة وواجباتها كان وما زال لهم مطالب من مؤسسات الدولة، شأنهم في ذلك شأن نظرائهم من المواطنين العاديين أو التربويين أو كل ناشط مجتمعي. وقد كانت هذه المطالب دائمًا تدور في إطار القوانين المرعية وتُطلَب عبْر السبُل والطرق المشروعة. ولم يحاولوا ألبتة اللجوء إلى أيّ وسيلة غير قانونية أو غير أخلاقية لتحقيق هذه المطالب.
وبطبيعة الحال، يتوقع المواطنون الذين تعلّقت قلوبهم بـ«الخدمة»، من القائمين على شؤون البلد، السعيَ إلى تعزيز سيادة القانون وحقوق الإنسان والحريات والسلام وحرية الفكر وبناء المشاريع ودعم الاستقرار والأمن في البلاد والحيلولة دون الانزلاق إلى الفوضى أو حدوث الأزمات، والتأكيدَ على تقبّل الجميع والاعتراف بوجودهم. كما يحق لهؤلاء الناشطين في الخدمة الاحتكام إلى الوسائل المدنية والديمقراطية المتاحة لهم، للإفصاح عن آرائهم حول أوجه القصور في هذا الصدد حال وجودها. إذ إن التعبير عن الآراء في هذا الصدد، ورفْعَ مستوى الوعي العام، هو واجبٌ وطني، وواحدٌ من أهداف المجتمع المدني أيضًا. ولا يلزم بالضرورة تأسيس حزب سياسي من أجل القيام بهذه المهمة، كما لا يمكن اتهام هؤلاء الذين يقومون بهذه المهام بأنهم يقتحمون السياسة، أو يريدون تقاسم السلطة، أو يعملون على تدخل غير المنتخَبين في عمل الـمُنتَخَبين ديمقراطيًّا. فما ذكرناه آنفًا، هو ما عليه الحال في أيّ نظام ديمقراطي حقيقي، وفي أيّ دولة من دول العالم المتقدّم من حيث الديمقراطية.
إنّ الأحزاب السياسية والانتخابات الحرة هي شروط أساسية للنظام الديمقراطي، ولكنها لا تكفي بمفردها، فالأداء الفعّال والسلس للمجتمع المدني هو أمرٌ مُهم كذلك. ومن الخطأ القول إن الانتخابات هي الطريقة الوحيدة لمساءلة السياسيين أمام عامّة الناس، حيث إنّ المجتمع المدني يستمر بمراقبة السلطة الحاكمة ليرى ما إذا كانت تفي بوعودها أم لا، وذلك من خلال الإعلام والمناشط المجتمعية المختلفة وفعاليات عديدة أخرى في إطار القانون، مثل عرائض الاكتتاب ورسائل شبكات التواصل الاجتماعية. وبالرغم من أن نشطاء الخدمة التقوا على مبدأ عدم الانخراط في السياسة الحزبية وعدم السعي نحو السلطة، لكن هذا لا يعني أن يتخلّوا كمجتمع مدني عن مسؤوليتهم وصلاحيتهم في مساءلة السلطة السياسية ورقابتها. وبما أن الخدمة ليست تكوينًا بنيويًّا ولا تنظيمًا مركزيًّا هرَميًّا، فليس هناك وجهة نظر سياسية واحدة يتبنّاها جميع المشاركين فيها، كذلك ليس من المعقول القول إن حركة كهذه منحازة إلى حزب بعينه فضلًا عن أن تكون منخرطةً فيه، فللمتعاطفين معها اختياراتهم السياسية الخاصّة، ولا تفرض الحركة أي وجهة نظر معينة عليهم، ولا تتدخل في هذا الموضوع على الإطلاق.
كما أن برنامج الخدمة وتقويمها الزمني لا يتحدَّد وفق التغيّرات الانتخابية والسياسية، بل يتحدّد حسب المشاريع التي تدور في فلك القواسم الإنسانية المشتركة. كذلك، فإن الحركة لا تتدخل في الشؤون الداخلية أو التطورات السياسية في أي بلد نهائيًّا، فحيثما تتّجه تركّز جهدها على تنفيذ مشاريع مدنية تطوّعية في مجالات تعليمية وثقافية وإنسانية. ولكونها تتمسك بهذا المبدأ ولا تفرّط فيه، فهي اليوم تحظى بقبولٍ لأنشطتها في أكثر من 160 بلدًا حول العالم.
ولا شك أن من المتعاطفين مع أفكار الخدمة والمحبين لها، من هم اليوم داخل السلك البروقراطي في الدولة، شأنهم شأن بقية شرائح المجتمع الحاملة لأفكار أخرى. ومن ثم فليست انتماءاتهم مدوَّنة على جباههم، وبالتالي فإن محاولة تصنيفهم في تقارير أمنية حسب تعاطفهم، أمر غير قانوني وغير أخلاقي على حدٍّ سواء. وأيضًا فهؤلاء المتواجدون داخل السلك البيروقراطي -ممن يقال إنهم متعاطفون مع الخدمة- يخضعون خضوعًا صارمًا للقوانين واللوائح المنظمة لشؤون العمل داخل المؤسسات التي يعملون بها، ويمتثلون لأوامر رؤسائهم في مجال أعمالهم، أي إن واجباتهم محدَّدة حسب القوانين. وإذا كان الأمر كذلك فلا أدري كيف يمكن أن يحقق هذا امتيازا أو مصلحة لشخص أو فئة ما.
وأريد أن أكرّر التأكيد هنا على نقطة هامة؛ وهي أن في أجهزة الدولة قد يكون هناك مَن هم متعاطفون معي أو مع أي شخص آخر، أو مع حركة فكرية، أو أيديولوجية ما، وهذا أمر طبيعي تمامًا. فليس لأحد التدخّل في قناعات الآخرين الشخصية أو معتقداتهم أو نظرتهم إلى العالم، والمتوقع ممّن يتخرجون من مدارس الخدمة أو ممّن يتعاطفون مع المثُل العليا التي تدعمها الخدمة، أن يتصرفوا بصدق واحترام تجاه سيادة القانون وحقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية، أيًّا كانت المناصب التي يشغلونها في الدولة.
ومن ثم إن كان هناك أشخاص داخل مؤسسات الدولة، بدلًا من الانصياع لأوامر رؤسائهم أو لوائحِ القوانين، يتلقّون الأوامر من جماعتهم التي ينتسبون إليها أو يميلون نحوها فكريًّا، فلا بد من أن يُكشَف أمرهم، وينالوا العقاب اللازم بهم حتى وإن ادّعوا أنهم يعملون لصالحي. وإن كان هناك مَن يرتكب الجرائم من العاملين في الشأن العام ممن يدّعون التعاطف مع «الخدمة»، فينبغي أن تبدأ التحقيقات معهم بسرعة وأن يُحالوا للعدالة.
إن موقف «الخدمة» من الشفافية والمساءلة واضح، وسيظل كذلك. ومع هذا فإن الأنظمة السياسية المبنية على مبدأ الشفافية التامة هي وحدها التي تستطيع أن تطالب المجتمع المدني بأن يتحلى بمثل هذه الشفافية أيضا. أما مطالبة الآخرين بأن يكونوا في منتهى الشفافية في حين أنهم لا يتخذون إجراءات تتعلق بالشفافية في السلطة والسياسة، فهذا أمر لا يمت إلى المصداقية بصلة. وإن موجات التقارير الأمنية وعمليات التنصت على المكالمات الهاتفية وإجراءات التصفية في المؤسسات البيروقراطية خير شاهد على ما أقول، فلقد جرى نقل آلاف المسؤولين من مواقعهم من دون أي تحقيقات عقب فضيحة الفساد في السابع عشر من ديسمبر (كانون الأول) من العام الماضي، ولا تزال كل المعايير التي تستند إليها الحكومة في إجراءات الطرد والتشريد والإبعاد لهؤلاء الموظفين من أماكنهم وتعيين آخرين بدلا منهم مجهولةً لدى الناس، لذا فإن العملية برمتها تعطي انطباعا عن كونها تعسفية.
https://www.youtube.com/watch?v=IiwQJepuFLc