بقلم : د.محمد جكيب
قد يستعصي على ثلة من مثقفي العالم العربي ممن عرفوا فكر فتح الله كولن، ومنجزات حركة الخدمة، التصريح الواضح بمواقفهم تجاه الأحداث الجارية في تركيا بالنظر لحالة الالتباس والضبابية، التي تعم الوضع بالنسبة لبعضهم، ولكونهم نسجوا علاقة ما بالحزب الحاكم في تركيا في ظل السياسية ومصالحها، وربما في ظل مصالح أخرى وتوافق القناعات الفكرية والمنهجية والحركية، التي يمثلها هذا الحزب.
الجدير بالذكر أن بعضهم لم يتوان عن الربط في أغلب الأوقات بين الخدمة والحزب الحاكم اعتقادا منهم أن الحزب هو الذراع السياسي للحركة، بل منهم من اعتقد أن الخدمة هي أداة من أدوات الحزب، وظلت تعليقاتهم في المنتديات العامة والخاصة تجمع بينهما في دائرة واحدة، وكأنهم وجدوا ضالتهم في هذه العلاقة، ووجدوا ما يدعم نظرية عدم انفكاك العمل الحركي الإسلامي عن العمل السياسي، وكون السياسة هي أساس العمل الإسلامي، رغم الإلحاح على أنه لا علاقة عضوية أوغير عضوية تربط بين الخدمة والحزب الحاكم، وكون الخدمة حركة مدنية اجتماعية منخرطة بكل جهدها في خدمة المجتمع بجميع أطيافه وشرائحه وتوجهاته الثقافية والدينية، وكونها تقف على مسافة واحدة من كل الألوان والأطياف السياسية التركية، وتدعم الديمقراطية وتحترم الحريات. لقد وضعت جسامة الحدث التركي العديد من هؤلاء في حيرة ومنزلة بين المنزلتين، وأكثرهم يحاولون التزام الحياد وينأون عن كل موقف، معتبرين القضية شأنا تركيا داخليا.
قد يكون هذا الموقف مقبولا إذا كان ركن النظر سياسيا، لكن عندما يكون هذا الركن فكريا حضاريا، فإن الإفصاح عن المواقف يصير على الأرجح ضرورة، لأن الذين تعرفوا على الخدمة عثروا على مشروع إصلاحي حي، مرتكز على خلفية فكرية ثقافية متينة، وعثروا على مشروع توفرت فيه شروط النمذجة الإصلاحية التي تسمح بتشييد صرح حضاري على أساس أخلاقي بعيد عن السلوك السياسي الانفعالي. على هذا المنوال كانت تعليقاتهم، وعلى هذا المنوال كذلك كتب بعضهم في أعمدة بعض المنابر الإعلامية.
على المثقف العربي المحايد ترك حياده ومساندة العمق الحضاري، الذي مثلته الخدمة ولا تزال قبل انطلاق حملة الشيطنة، هذا العمق الذي طالما اعتبره هذا المثقف دعامة أساسية لأحلامه وأشواقه وتطلعاته. لقد راكمت أغلب المجتمعات العربية والإسلامية العديد من التجارب الفاشلة على مستوى النهوض والانبعاث وظلت أغلب مشاريع نهضة هذه المجتمعات مجرد أفكار مؤجلة عن التحول إلى منجز يعكس طابعا حضاريا يراعي الخصوصية والهوية والتاريخ ويراعي في الوقت نفسه شخصية العصر، وفي خضم التعرف على الخدمة اكتشف هذا المثقف أن هناك مقاربة جديدة تقوم على تجاوز التنظير إلى التطبيق والتفعيل، واكتشف أن الأفكار المؤجلة لا مكان لها في قاموس هذه الحركة.
لقد تعرف هذا المثقف على تركيا في وجه الخدمة المشرق واستطاع تكوين صورة إيجابية عن المجتمع التركي وحيويته من خلال التأثير الكبير الذي أحدثته أفكار الداعية فتح الله كولن باعتباره عالما ومثقفا ومفكرا استفاد بعمق من الوجه المشرق للتراث الإسلامي الحضاري، وقرأ الإسلام قراءة جديدة بعد الاطلاع على تراث عدد من علماء الأمة ومجدديها، ورسخ في ذهن هذا المثقف أن الخدمة باعتبارها حركة إسلامية اجتماعية أكثر تأثيرا في الواقع بالعمل المدني والاجتماعي بابتعادها عن ممارسة السياسة والعمل الحزبي، لكنها في الوقت نفسه تدعو إلى الديمقراطية وتعتبرها أحسن ما يوجد من أساليب السلطة والحكم وتنبذ العنف، وتدعم الشرعية أنى وجدت ما دامت تخدم قيم المجتمع وتضمن استقراره وتوحد أهدافه، وتدعو إلى توسيع دائرة الحريات ودعم سيادة القانون والعدل وترفض الفساد، لكنها تحتفظ لنفسها بحق ممارسة النقد البناء وتقديم النصح عند الضرورة.
ومن أهم ما اكتشفه المثقف العربي في تعرفه على الخدمة استقلالها الكامل عن كل جهة كيفما كانت طبيعتها مؤسسية أو غيرها، داخليا وخارجيا بما في ذلك الدولة التركية التي هي جزء من نسيجها المجتمعي، إذ كانت حريصة منذ وقت بعيد على تنمية إمكاناتها ذاتيا، أو كما قال أحدهم كانت حريصة على أن تقلى في زيتها.
ولعل أحد أهم أسباب الخلاف بينها وبين حكام تركيا الأقوياء هو عدم قبولها الانخراط مع الحزب الحاكم وزعيمه في أي شكل من أشكال الحد من استقلالها وجعلها تحت رحمة نزوات الساسة وحساباتهم، وهو الشرك الذي نصب للعديد من الحركات الدينية والمنظمات والأفراد فأطبق عليهم ليفقدوا استقلالية قرارهم ومواقفهم، وما الحرب المعلنة على الخدمة اليوم سوى عقاب على عدم انخراطها في دعم سياسة حكام تركيا الأقوياء بخصوص القضايا الكبرى، كالعلاقة مع دول الجوار والمشكلة الكردية والعلاقة مع إيران، وقضايا الفساد السياسي، لأن الخدمة ترى في عدم الاستقرار والفوضى وضعا لا يساعد تركيا على القيام بدورها الريادي في المنطقة أحسن قيام.
تحرص الحركة على تمثل القيم الإسلامية السامية وتحرص على البقاء في أفق هذه القيم رغم كل شيء، وقد لفت هذا انتباه من تعرف على الإطار البشري الذي ترعرع في حضن الحركة، من أطر التربوية والأصناف (أي التجار ورجال الأعمال) ومثقفين وإعلاميين وغيرهم، لقد اكتشف هذا المثقف في هؤلاء جميعا شيئا جديدا ما عهده في أبناء الحركة الإسلامية على طول العالم العربي، اكتشفوا رجالا لا تسعفهم الكلمات والعبارات في وصف وشرح طبيعة القيم التي يحملونها، لكن تلمسها في تصرفاتهم وفي صدق طويتهم وفي إخلاصهم، وربما رأى البعض في ذلك الأمر سبب النجاح والتوفيق الذي يرافقهم أينما حلوا وارتحلوا.
الراجح أن يستغرب المثقف العربي طبيعة الاتهامات التي توجه لفتح الله كولن وللخدمة، لأنهم لا يجدون فيما بين أيديهم من معطيات ما يرجح أن الرجل وحركته قد تورطا فيما يمت ولو بصلة بعيدة بالاتهامات المزعومة، إن أحدا لا يستطيع إنكار أن تراث الرجل وكل من يرتبط به من محبيه ومريديه ومؤسسات لا يمكن أن يصدر عمن ذهنه متعلقا بالانقلابات والسيطرة على السلطة والحكم واحتلال المناصب، كل تفاصيل حياة الرجل وكل كتاباته ومحاضراته ومواعظه وتوجيهاته وتصرفاته تؤكد ذلك، ويستحيل أن تشتم فيها رائحة التحكم، وقبل هذا وذاك كيف لرجل بلغ من السن ما بلغ أن تكون له أطماع سياسية.
يفترض في المثقف عدم خلط الفكري الثابت بالسياسي المتحول، لأنه أكثر أفراد المجتمع وعيا، إذ لا يجوز له الانسياق وراء سيكولوجية الجماهير، لأنه يدرك أن حسابات السياسي غير متوقعة وهو ليس ملزما دائما بالوقوف عند القيم والأخلاق فقد يقفز عليها عندما تعارض مصالحه السياسية، ومن هنا فإن المثقف العربي الذي عرف الخدمة مدعو إلى قول كلمة حق من خلال الحكم على الحقائق التي وقف عليها. وعليه أن يؤكد أن الانبعاث الحقيقي لا يكون إلا بتمثل حقيقي لقيم الإسلام السامية التي هي في جوهرها قيم سلوكية وحضارية وليست مجرد قيم سياسية قائمة على الخصام والنزاع.
قال أحدهم ماذا نفعل نحن نحب المفكر والسياسي ونحب الجلاد والضحية، لكن أي حق هذا الذي يسوي بين الضحية والجلاد، إلا إذا كان في النفس ميل إلى الاستقواء على الناس ولو بالظلم.
https://youtu.be/Dm2L4-jrFk0