بقلم: أمر الله أوصلو
بروكسل (زمان التركية) – سقطت تركيا اليوم في دوامة ديكتاتورية تزداد سرعة وعمقًا بمرور الزمن، ولا شك أن أحد الأسباب الرئيسية التي أسقطت تركيا في مستنقع السلطوية والاستبداد خلال زمن قصير هو قطع “جماعة كولن” علاقتهم ومساندتهم لـ”أردوغان”.
ولو نظرنا إلى وتيرة الأحداث منذ عام 2014 إلى اليوم يمكننا القول إن الشراكة التي كانت بين أردوغان وجماعة كولن -حركة الخدمة- كانت إحدى الآليات والعوامل الرئيسية في كبح جماح نزعة أردوغان إلى السلطوية والاستبدادية.
فعقب انتهاء هذه الشراكة مباشرة قاد أردوغان تركيا بسرعة كبيرة نحو هوَّة السلطوية كالشاحنة التي تعطل مكبحها فجأة، ولا أحد يعترض على ذلك. وفي خضم تلك الأحداث يزج أردوغان أفراد جماعة كولن أمام عجلات هذه الشاحنة ليسحقهم تحتها، إلى أن أصيب الشعب التركي باليأس والإحباط التام.
فمن ناحية يُحمِّل الناس جماعة كولن مسؤولية الأحداث الجارية في السنوات الأخيرة، ومن ناحية أخرى يبحثون عن البطل الذي سيوقف هذه الشاحنة المتجهة بتركيا إلى الهاوية.
ظهر في البداية “أحمد داود أغلو”، والآن “علي باباجان”، وكأن ظهورهما هذا قد أحيا الأمل من جديد في نفوس هذه الجموع الغفيرة من الشعب التركي، إلا أن هناك البعض يشعرون بالقلق حيال مقدرة باباجان وكفاءته في إنقاذ تركيا والعبور بها إلى برِّ الأمان.
لقد ظهر علي باباجان في إحدى البرامج التليفزيونية وصرَّح بأنه بصدد تأسيس حزب سياسي وسينتهي من عملية تأسيسه وتنظيمه في بداية العام الجديد. لقد أثار هذا التصريح حراكًا في صفوف المعارضة، فبينما يتساءل البعض عن سبب صمت باباجان إلى اليوم، يُصرِّح البعض الآخر بأنه شريك في هذه الأحداث التي تعانيها تركيا اليوم، وأنه من الصعب أن يحقق أمل الشعب التركي في القضاء على دولة الديكتاتورية والاستبداد.
بجانب هذا، هناك مجموعة أخرى تقول بضرورة دعم كلِّ مَنْ يخطو خطوة نحو الديمقراطية دون النظر إلى ماضيه، فهم يقترحون دعم باباجان من منطلق أنه سيفعل شيئًا ما من أجل الديمقراطية التركية، فمن خلال رئاسته حزبًا سياسيًّا معارضًا سيعمل على تعزيز الديمقراطية والوقوف في وجه حزب العدالة والتنمية.
في الواقع هناك بعض المعطيات التي يجب النظر فيها من أجل إدراك مدى جدوى ظهور باباجان في هذا التوقيت، وهل سيعود بفائدة على الديمقراطية أم لا؟
بداية إن المرحلة التي تعيشها تركيا ليست مرحلة خاصة بها فحسب، فقد مرت الدول المتحولة من الديمقراطية إلى الديكتاتورية بمراحل مشابهة، وقد ظهرت على الساحة شخصيات مشابهة بأسلوب مشابه لإيقاف سير هذا التحول.
ومن هذا المنطلق يمكننا نعرف ما إذا كان باباجان سيمثل أملًا لتركيا والمعارضة وحتى الجماعة أم لا.
إن الوضع مؤسف للغاية، فلا يمكن إيقاف هذا الانزلاق الذي تعانيه تركيا دون الخروج من دوامة الديكتاتورية.
إن ما أعنيه بدوامة الديكتاتورية هو: أن الشخصيات –بما فيها المعارضة والإعلام والحكومة والقضاء والمجتمع المدني ورجال الأعمال- والعوامل -التي تهمّ الشأن التركي مثل التوازنات الدولية، الهجرة وخطر اليمينية المتصاعد في الولايات المتحدة، وانغلاق أمريكا وتقوقعها على نفسها، وتفوق الصين وروسيا على الساحة الدولية- التي يغذي بعضها بعضًا تحرِّك دوامة الديكتاتورية التي سقطت فيها تركيا وتزيد من سرعتها.
ولخروج تركيا من هذه الدوامة والنجاة بنفسها يجب توفر الشخصيات (و/أو) العوامل القوية القادرة على كبح جماح هذه الدوامة العارمة، والبدء في مواجهة المرحلة والتصدي لها، لذا يجب النظر في هذه النقطة من ناحية ما إذا كان باباجان يمتلك المقومات والقوة الكافية لإيقاف سير “دوامة الديكتاتورية” أم لا.
يبدو من المحال على أية حال أن يستطيع باباجان إيقاف دوامة الديكتاتورية هذه التي تزداد سرعة وعمقًا بمرور الوقت سواء بسبب ظهوره متأخرًا جدًّا، أو بسبب شخصيته الباردة رغم أن له رصيدًا طيبًا لدى الناس بسبب إنجازاته الماضية.
إن هذه الدوامة قوية وجامحة لدرجة أنها قادرة على ابتلاع علي باباجان وداود أغلو وسحقهما. لهذا لن ينجح الحزب الذي يؤسسه باباجان بمفرده في أن يخرج تركيا من هذه الدوامة.
ولو أمعنَّا النظر في وتيرة الأحداث التي تعيشها الدول الأخرى من العالم، لوجدنا أن هناك عدة طرق لانتهاء حكم الديكتاتوريين. يجب تشتت القوة الأساسية / المركزية التي تساند النظام الديكتاتوري للإطاحة برأس النظام. فمثلاً نرى في أمريكا اللاتينية أو أفريقيا أن الأصدقاء القدامى للديكتاتوريين ينشقّون منهم ويطلقون حركة جديدة، لتبدأ دوامة الديكتاتورية إلى التراجع رويدًا رويدًا.
ولكن يجب أن تتوافر مجموعة من الشروط من أجل ذلك. فعلى سبيل المثال يجب تأسيس إعلام مستقل ولو بنسبة معينة، ووجود حركات المجتمع المدني ومؤسسة قضائية مستقلة لحماية هؤلاء المنشقين تجاه تحركات الدكتاتوريين المضادة حتى تستمر الانشقاقات ويمكن عزلهم عن الحياة السياسية تمامًا.
لكن تركيا تأخرت عن هذه المرحلة كثيرًا. فلو كان باباجان قد أعلن خروجه هذا في عام 2014، أي عندما كانت هناك نسبة محدودة من حرية الإعلام، وكانت تؤدي مؤسسات المجتمع المدني مهمتها، ويحافظ القضاء على استقلاليته إلى حد ما، لاستطاع باباجان أن يوقف هذه الدوامة قبل أن يشتد دورانها وتبتلع كل من يعترض طريقها.
لن يكون باباجان وداود أغلو بعد تجاوز هذه المرحلة الحرجة إلا أشلاء مجزأة بين أسنان دوامة الدكتاتورية هذه، ولن يحصلا على القوة اللازمة لتحطيم هذه الأسنان.
بناء على مشاهداتي وتقييمي للمشهد والواقع التركي فإنني أعتقد أنه ليس في مقدور الشخصيات السياسية إخراج تركيا من دوامة الديكتاتورية هذه. لكن من الممكن إيقاف هذه الدوامة عن طريق معارضة مجتمعية تتشكل بالتزامن مع ظهور عوامل قوية. فمثلاً يمكن أن تتحطّم دوامة الدكتاتورية بتغير بعض العوامل الخارجية كتغير التوازنات الدولية، والمسار الذي ستتجه إليه أزمة صواريخ S400، وتعمق الأزمة الاقتصادية، وموت الديكتاتور قضاءً وقدرًا. لذلك ليس أمامنا خيار سوى متابعة ورصد التطورات والانتظار.
على الأرجح تستطيع منصات الدفاع عن حقوق المتضررين من أحكام وقرارات مراسيم الطوارئ (KHK PLATFORMLARI)، مقصلة أردوغان، التي تزداد انتشارًا بمرور الوقت أن تبطئ هذه الدوامة بشكل أكثر فعالية وأقصر مدة بكثير عن الحزب الذي سينشئه علي باباجان.
وليس معنى هذا أن الحزب الذي سيؤسسه باباجان لا فائدة منه، بل من الممكن أن يبطئ هذه الدوامة ولو لفترة مؤقتة.
بغضّ النظر عمّا فعل في الماضي، فإنني أؤيد وأدعم خروج باباجان، ولو لم يؤدِّ إلى النتيجة المرجوة، وذلك احترامًا وتقديرًا لمحاولته وسعيه وإقدامه وشجاعته.
ترجمة: خالد عبد الله حسن
–