بقلم : ياوز أجار
إسطنبول (زمان التركية) – في مثل هذا اليوم من صباح 71 ديسمبر 2013 أمر المدعيان العامان جلال كارا ومحمد يوزكيج بتنسيق من المدعي العام الشهير زكريا أوز، الذي سبق أن أشرف على قضية “تنظيم أرجنكون الإرهابي”، بإطلاق عملية كبيرة أصابت الجميع بالصدمة، أسفرت عن احتجاز 89 شخصًا، بينهم باريش جولر، ابن وزير داخلية تلك الفترة معمر جولر، وصالح كاغان جاغلايان، ابن وزير الاقتصاد ظفر جاغلايان، وعبد الله أوغوز بايراقدار، ابن وزير البيئة والتخطيط العمراني أردوغان بايراقدار، والمدير العام لبنك “خلق” الحكومي سليمان أصلان، واثنان من مشاهير عالم الأعمال علي آغا أوغلو والإيراني رضا زراب وعمدة بلدية “فاتح” في إسطنبول مصطفى دمير، وذلك بتهمة “الرشوة وإساءة استخدام السلطة والاختلاس في المناقصات العامة والتهريب وتبييض الأموال”.
ثم أصدرت المحكمة بعد النظر في الأدلة قرارًا باعتقال 26 شخصًا من المتهمين، بينهم أبناء الوزراء الثلاثة، ومدير بنك “خلق” سليمان أصلان، ورضا زراب، في حين قضت المحكمة بإخلاء سبيل ابن وزير التخطيط العمراني بايراقدار، ورجل الأعمال آغا أوغلو، وعمدة بلدية فاتح قيد المحاكمة.
تدخل سافر في عمل القضاء
اعتبر رئيس الوزراء في ذلك الوقت أردوغان قضية الفساد والرشوة “عملية سياسية” تستهدف الإضرار بحكومته والاقتصاد التركي، بل وصفها بـ”محاولة انقلاب” يقف وراءها ما أسماه “الكيان الموازي”، قاصدًا به حركة الخدمة. ولذلك لم يتردد في اتخاذ تدابير استثنائية لتبرئة المتهمين وإفلاتهم من قبضة السلطات الأمنية والقضائية.
بدأ أردوغان يهاجم بشراسة في جميع خطاباته “الكيان الموازي” أو “الدولة الموازية”، غير أن هذه الكلمة أو المفهوم لم يكن مألوفا لدى الشارع التركي، ولم يستخدمه أردوغان من قبلُ بحق حركة الخدمة، بل لم يتخذ موقفًا سلبيًّا – في العلن على الأقل – من هذه الحركة طيلة عقد كامل من حكمه، إن استثنينا الخلاف حول إغلاق “معاهد التحضير الجامعي” الذي نشب بين الطرفين قبل عدة شهور من تحقيقات الفساد، الأمر الذي أفضى إلى الارتباك والالتباس في الأذهان، وانقسم الشارع تبعًا لذلك بين مؤيد لأردوغان في أطروحته ومعتبرٍ الكيان الموازي “حقيقة” ومعارض له ومعتبرٍ إياه “وهما” يضعه أردوغان أمام شعبه ليتمكن من التستر على فساد حكومته!
وبعد يوم واحد من تحقيقات الفساد أي في 18 ديسمبر 2013، بادر أردوغان إلى عزل خمسة من مدراء الأمن بمن فيهم المشرفون على التحقيقات، تلا ذلك عزل مدير أمن إسطنبول حسين جابكين وتعيينه حاكمًا مركزيًّا في 19 ديسمبر 2013، بينما توسع نطاق حركة التغييرات في صفوف القادة والموظفين الأمنيين بصورة غير مسبوقة في اليوم الثالث، وذلك بدعوى أنهم لم يبلغوا هذه العمليات الأمنية المسؤولين الذين هم أعلى مقامًا منهم! [1]
ومن اللافت أن حكومة أردوغان أصدرت في 21 ديسمبر 2013 مرسومًا يقضي بضرورة إبلاغ الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين التحقيقاتِ والعملياتِ التي يقودونها إلى كبار المسؤولين الإداريين االحكوميين في منطقتهم، المرسوم الذي اعتبره مجلس القضاء الأعلى في بيان خطي مخالفًا لمواد الدستور وقانون العقوبات، بالإضافة إلى مخالفته لمبادئ الفصل بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية واستقلالية القضاء وسيادة القانون الضرورية التي لا يمكن أن تتخلى عنها أي دولة ديمقراطية في العالم، وأكد أن القضاء المستقل ضمان المرؤوسين ضد الرؤساء. [2]
حقيقة الدعاء الذي تلاه كولن
بدأ أردوغان يستخدم لغة وصفت بـ”الخارجة عن قواعد المروءة والأدب والأخلاق” ضد ملهم حركة الخدمة فتح الله كولن، بما فيها ألفاظ خطيرة من الناحية الدينية، إذ اتهمه بـ”النبي المزور”، ونعته بـ”مسودة عالم”، واعتبره من طائفة “الحشاشين” بقيادة حسن صباح الإسماعيلي وما إلى ذلك من الأوصاف والاتهامات التي استخدمها في خطاباته بعد تحقيقات الفساد والتي تجاوز مجموعها ألفًا، بحسب الإحصائيات الدقيقة.
أما كولن فقد رفض جميع مزاعم “الكيان الموازي” وتحدى أردوغان من خلال محاضرة ألقاها على محبيه في 21 ديسمبر 2013 قال فيها: “سأقول كلامًا لم أقله من قبل أبداً.. إني لا أعرف المدعين العامين الذين تعقبوا مرتكبي الأفعال السيئة من أبناء الوزراء، ولا أعرف واحدًا بالألف منهم، غير أن البعض ينسب القائمين على هذه الحملة إلينا وحركة الخدمة، ويرانا متعاونين فيها.. لذلك أنا أقول ولا أستثني نفسي: إذا كان من قام بهذه الحملة قد ارتكب أمرًا مخالفًا لروح الدين الإسلامي ومخالفًا لمبادئ القرآن الكريم والسنة الصحيحة، وللقوانين الحديثة، ومنافيًا للديمقراطية، فأسال الله عز وجل أن يخسف بنا وبهم الأرض، وأن يملأ بيوتنا وبيوتهم نارا، وأن يهدم على الجميع جدرانهم. ولكن إذا كان الأمر خلاف ذلك، بمعنى أن يرى البعضُ اللصوصَ ويتركونهم ويطلقون سراحهم، ويهاجمون في نفس الوقت من يرشد عليهم ويكشف الغطاء عنهم، ويغمضون أعينهم عن الجريمة، ويتهمون الأناس الأبرياء بارتكابها من أجل تشويه سمعتهم، فأسال المولى عز وجل أن يحرق عليهم بيوتهم، وأن يزلزلهم ويشتِّت شملهم ويمزق وحدتهم وأن لا يبلغهم الأمل”.
وهذا التحدي جعل أنصار أردوغان يسارعون إلى اتهام كولن بالدعاء على زعيمهم، لكن طلبة كولن نفوا ذلك واتهموا الطرف الآخر بتقليب ما قاله رأساً على عقب، وبتر الموضوع عن سياقه أو بالاقتباس من كلامه ما يحلو لهم ويوافق هواهم وهجر ما يعارض رؤاهم وأفكارهم، وأكدوا أن أستاذهم لم يدعُ على أردوغان إطلاقًا، ولم يتعرض له في الكلام اسمًا، بل إن كل مغزى كلامه كان ضد من يمارس الفساد والرشوة، ويأكل حق العباد أو من يسعى إلى التغطية والتستّر على ذلك أيًّا كان، مما يعني أنه انتقد الصفات الذميمة بدون ذكر أسماء الأشخاص الذين يتصفون بها، وكأنه فصّل قميصًا وألبسه من يرتكب تلك الأفعال الذميمة دون ذكر أي اسم أو مؤسسة.
أردوغان يقيل وزراء “الفساد”
على الرغم من أن أردوغان زعم وجود كيان موازٍ داخل الدولة يريد الإطاحة بحكومته من خلال توظيف تحقيقات الفساد، إلا أنه اتخذ قرارًا بإقالة وزير شؤون الاتحاد الأوروبي أجامان باغيش من منصبه، كما أن وزير الاقتصاد ظفر جاغلايان ووزير الداخلية معمر جولر، ووزير البيئة والتخطيط العمراني أردوغان بايراقدار أعلنوا استقالتهم من مناصبهم في 25 ديسمبر 2013 بطلبٍ من أردوغان على خلفية تورط أبنائهم في أعمال الفساد والرشوة.
إلا أن شيئًا وقع لم يأخذه أردوغان في حسبانه، حيث ظهر الوزير بايراقدار عقب ذيوع خبر استقالته على شاشة قناة إن تي في (NTV)، وصرح على الهواء مباشرة أنه من صلاحية رئيس الوزوراء أردوغان أن يقيل أي وزير شاء من منصبه ويعمل مع أي وزير أراد، ثم استدرك قائلاً: “ولكن من غير الممكن أن أقبل ممارسته الضغوط عليّ أن استقِيلوا وانشُروا بياناً يريحني. ذلك أن مخططات الإعمار الموجودة في ملف التحقيقات الجارية في إطار قضية الفساد معظمها قد تمّ تنفيذها بتعليمات صادرة منه”. ومن ثم طالب أردوغان بالاستقالة أيضًا، وفي الوقت ذاته أعلن استقالته على الهواء مباشرة من منصبه وحزبه والعضوية البرلمانية، الأمر الذي وضع أردوغان في موقف محرج جداً، ودل على أن الوزير لم يستقل بل أقيل من منصبه رغم أنفه. [3]
وهذا الأمر تأكد عندما نشر قرار الإقالة في الجريدة الرسمية بتاريخ 26 ديسمبّ 2013 حيث جاء نص الخطاب الذي أرسلته رئاسة الوزراء إلى رئاسة الجمهورية التي كان يشغلها عبد الله جول كالآتي: “نرجو الموافقة على إقالة وزير البيئة أردوغان بايراقدار من مهامه طبقًا للمادة 109 مع فائق الاحترام.”
وهذا على الرغم من أن أردوغان زعم أن الوزراء الثلاثة عرضوا عليه استقالتهم منذ اندلاع أزمة الفساد، لكنه رفض استقالتهم في البداية.
وعلى خلفية استقالة ثلاثة وزراء، أعلن أردوغان تعديلا وزاريا في حكومته. ولعل أهم تغيير في هذا المجال جرى في منصب وزارة الداخلية، إذ عين شخصية مثيرة للغاية معروفة بعلاقاتها الوطيدة مع “التيار الإيراني” في تركيا أفكان علاء خلفًا لمعمر جولر.
ومن المثير أن أردوغان أمر بحظر نشر الفيديوهات والأخبار التي تتناول قضية إعلان الوزير بايراقدار عن استقالته من منصبه وحزبه وعضوية البرلمان في آن واحد، مطالبًا أردوغان بالاستقالة أيضًا. [4]
أردوغان يدافع عن زراب الإيراني
في تصريحات صحفية على متن الطائرة أثناء عودته من زيارة لباكستان في 26 ديسمبر 2013، وصف أردوغان زراب الإيراني الذي كان الشخصيةَ المحورية في التحقيقات بـ”رجل أعمال محب للخير”، ودافع عنه قائلاً: “رضا زراب له إسهامات في الاقتصاد التركي، فهو رجل أعمال يقوم بتصدير الذهب، ويشارك في العديد من الأعمال الخيرية”.
كما ادعى أن مبلغ 4.5 مليون دولار الذي عَثرت عليه الشرطة في صناديق أحذية بمنزل مدير بنك “خلق” سليمان أصلان عبارة عن تبرعات لإنشاء مدرسة ثانوية للأئمة والخطباء!
وكانت القوات الأمنية اعتقلت في 29 ديسمبر 2013 سيدة متقاعدة بسبب تظاهرها برفع صندوق أحذية من شرفة منزلها المطلّ على المنصة التي كان يخطب بها أردوغان في أحد لقاءاته الجماهيرية بمدينة مانيسا. ومنذ ذلك الحين أصبح التظاهر والاحتجاج برفع صناديق أحذية رمزًا يشير إلى “الفساد” و”السرقة” في تركيا.
ردود فعل حزب إسلامي
وجّه مصطفى كاملاك، رئيس حزب السعادة المنحدر من حزب الرفاه، المعروف بجذوره الإسلامية، الذي أسسه الزعيم الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان، الذي يعتبر شيخ أردوغان، انتقادات لاذعة ضد طريقة تعامل أردوغان مع فضائح الفساد. فقد قال في تصريحات أدلى بها لقناة “أس تي في”(STV) : “كان ينبغي على أردوغان أن يتقدم بالشكر والتقدير للنائبين العامين والشرطيين، ويمنحهم جائزة، ويعلنهم أبطالاً، لكشفهم النقاب عمّن مارسوا أعمال الفساد والرشوة من أبناء الوزراء والموظفين، قبل أن تطاله الشبهات بالذات. فلو تصرف أردوغان إزاء الفضيحة على هذا النحو لكانت كل المؤامرات – إن وجدت – باءت بالفشل ولما لَحِق باقتصاد الوطن أي ضرر”.
ومع أن كاملاك كان ينتمي إلى الجذور الفكرية ذاتها مع أردوغان، نظرا لأن الأخير كان من تلامذة أربكان قبل انشقاقه عن حزب الرفاه وتأسيسه حزب العدالة والتنمية، إلا أنه اتهم زميله أردوغان بالمبادرة إلى اتهام المدعين العامين وإعلانهم “مجرمين”، والعمل على التغطية والتستّر على “القذارة الواضحة وضوح الشمس”، على حد قوله. واعتبر حملة أردوغان المضادة تدخّلاً في السلطة القضائية، وانتهاكاً لمبدأ الفصل بين السلطات الثلاث.
تطرق كاملاك أيضًا إلى الحجج والذرائع التي تشبث بها أردوغان من أن الموظفين الأمنيين لم يبلغوا المسؤولين الذين هم أعلى مقامًا منهم قائلاً: “يقولون لماذا لم تبلهغنا النيابة العامة بهذه العمليات؟ أكان ينبغي عليها أن تتصل بالوزير وتقول: “يا سيدي الوزير سنعتقل ابنكم فلا تهرِّبوه من العدالة!” [5]
عملية فساد جديدة
في 25 ديسمبر 2013 انطلقت عملية جديدة بأمر المدعي العام معمر أكّاش في مدينة إسطنبول، كان وقعها أشدّ من قضية الفساد الأولى التي بدأت قبل أسبوع واحد، حيث وُجِّهت إلى 96 شخصًا تهم عديدة، بينها “تشكيل وإدارة منظمة من أجل ارتكاب جريمة وممارسات فساد في المناقصات العامة والتعاطي بالرشوة”. وأصدر المدعي العام قرارا باحتجاز 41 شخصًا، ومن ثم قضت المحكمة بالاستيلاء على ممتلكات مجموعة من رجال الأعمال. بالإضافة إلى أن المدعي العام أمر باستدعاء بلال أردوغان، ابن أردوغان، لاستجوابه بصفته “متهمًا”، الأمر الذي قصم ظهر البعير!
صحيفة “طرف” المغلقة بعد الانقلاب “الفاشل”، والمعروفة بمواقفها الجريئة وتوجهاتها الليبرالية، كتبت في 26 ديسمبر 2013 أن حملة الفساد الثانية كانت تكشف عن “فساد” بقيمة 100 مليار دولار في 25 مناقصة حكومية، ونوهت بصدور قرار باعتقال ضالعين به في خمس وزارات، بينها رئاسة الوزراء، بالإضافة إلى موظفين عموميين في دوائر الدولة المختلفة. وتضمن اتهام النيابة العامة أيضًا بيع أراضٍ عامة تبلغ قيمتها مليار دولار في الحقيقة بأقلّ من 460 مليون دولار، مما عرّض الدولة لخسارة تقدر بـ600 مليون دولار.
الأمن لا ينفذ أوامر النيابة العامة!
لكن شهدت تركيا حادثة لعلها الأولى من نوعها طيلة تاريخها، حيث رفضت أجهزة الأمن الجديدة، التي عينها أردوغان، الاستجابة لأوامر النيابة العامة بالاعتقالات المذكورة، الأمر الذي أدى إلى أزمة إدارية في البلاد بكل معنى الكلمة. ولما رفض الأمن الاستجابة للنيابة طالبت هذه الأخيرة قوات الدرك بتنفيذ تلك العملية بدلاً من الشرطة وفق ما ينصّ عليه القانون، غير أنها هي الأخرى لم تستجب لهذه الدعوة. [6]
وأكد نائب حزب الشعب الجمهوري باريش ياركاداش في تصريحات أدلى بها في الذكرى السنوية الأولى لبدء التحقيقات على قناة تلفزيونية أن أردوغان وقع في يد العسكر المرتبطين بتنظيم أرجنكون بعد تحقيقات الفساد والرشوة، ولذلك لم تنفذ قوات الدرك أوامر النيابة العامة هذه في إطار الاتفاقية بين الطرفين التي تنصّ على خلق تهمة تحت مسمى “الانتماء إلى الكيان الموازي” وتصفية كل من يقف أمام هذا التحالف الجديد من العسكريين والسياسيين والمدنيين، وذلك من أجل أن يضمن التربع على عرشه في القصر الرئاسي، على حد تعبيره. [7]
سحب الملف من النائب العام
وبعد يوم واحد من انطلاق حملة الفساد الثانية، أصدر النائب العام معمر أكّاش بيانًا خطيًّا أوضح فيه الضغوطات التي مورست بشكل علني على القضاء عمومً، وعليه شخصيًّا من أجل إعاقة التحقيقات في قضية الفساد الثانية وسحب الملف منه، وجاء في بيانه المطول ما يلي:
“لقد وجدت من الضرورة الإدلاء بالبيان التالي بسبب الضغوطات التي مورست من أجل إعاقة عملية التحقيقات في قضية الفساد التي كنت أشرف على إدارتها بالذات. إني أدير عملية التحقيقات منذ زمن طويل ضد عدد من الأشخاص المعروفين لدى الرأي العام، وبعضهم من الموظفين العموميين، وذلك بعد أن رفعت بحقهم دعاوى تشير إلى ممارستهم الفساد والرشوة واستغلال النفوذ والتزوير والتهديد وغير ذلك من الجرائم المخالفة للقانون.
وقد تمّ الحفاظ على سرية التحقيقات طيلة هذه الفترة، لكن بعد تسريب الأمر إلى وسائل الإعلام وسعي البعض إلى طمس الأدلة التي تثبت تورط الأشخاص المشتبه بهم قمتُ على الفور في 24 ديسمبر 1913 بتقديم الملف الخاص بهذه القضية إلى النائب العام الأول طوران جولاك قاضي ووكيل النيابة أوكتاي أردوغان.
وفي محاولة للملمة الأمر ومنع المشتبه بهم من طمس أدلة تورطهم في قضية الفساد، تم على عجالة استصدار قرار بتنفيذ الحملة من القضاء المناوب، وأبلغتُ مديرية الأمن بضرورة تنفيذ القرار القاضي بتوقيف الأشخاص المشتبه بهم على الفور خصوصًا بعد معرفتي من خلال متابعتي لبعض وسائل الإعلام وبعض المواقع الإلكترونية بأن هناك عدداً من الأسماء التي صدر بحقهم أمر الاعتقال يسعون جاهدين لطمس أدلة تلبسهم بالجريمة.
وقد التقيت في مساء نفس اليوم بمبنى القصر العدلي في إسطنبول بقادة شعب الأمن التي أوكلت إليهم مهام القيام بالحملة، إلا أنهم رغم ذلك لم ينفذوا الأوامر ولم تقم مديريات الأمن بأي إجراء.
أما اليوم أي 26 ديسمبر 2013، فقد فوجئت بسحب الملف المتعلق بهذه القضية مني، دون إبداء أي مبررات قانونية، لذلك فإن المسؤولية تقع اعتبارا من الآن على عاتق النائب العام الأول في إسطنبول وعلى وكيله.
ومن هذا المنطلق يجب على جميع زملائي القضاة وعلى الرأي العام أن يدركوا تمامًا بأنه تمت إعاقتي كنائب عام للدولة من إتمام مهامي في التحقيقات، وبناء عليه فإن النيابة العامة والشرطة المكلفين بإنفاذ القوانين مُنعوا من القيام بمهامهم الموكلة إليهم.
خلاصة القول إن المشرفين الأمنيين قد ارتكبوا جريمة بعدم تنفيذهم قرارات النيابة العامة، وبمنحهم الأشخاص المتورطين في أعمال الفساد فرصة للهروب وطمس الأدلة.
وأخيرا فإن هذه المرحلة التي نمر بها صعبة، لذلك فإني أهيب بكبار رجال القانون والحقوقيين أن يهبوا للدفاع عن استقلالية القضاء”. [8] انتهى كلامه.
أردوغان يطرد “الأصوات المعارضة”
وفي غضون ذلك، بدأت أصوات معارضة تتعالى من صفوف حزب العدالة والتنمية الحاكم، ما دفع أردوغان إلى اتخاذ تدابير لمنع حصول شرخ في صفوف حزبه وحكومته. فبعد أن استقال كل من نجم لاعب كرة القدم الشهير عالميًّا، والذي تصدر قائمة الهدافين على المستوى التركي والأوروبي هاكان شكور، والخبير في الشؤون الأمنية إدريس بال، بعد أيام قلائل من بدء تحقيقات الفساد، اتخذ أردوغان قرارًا بإحالة كل من أرطغرل جوناي، الذي شغل منصب وزارة السياحة والثقافة، وأردال كالكان، وحلوق أوزدالجا، الخبير في السياسة الخارجية، إلى لجنة التأديب بهدف فصلهم من الحزب، وذلك على خلفية تصريحاتهم المنتقدة لطريقة تعامل الحكومة مع فضائح الفساد والرشوة. لكن هؤلاء النواب المعروفين بمعارضتهم لإغلاق “المعاهد التحضيرية الخاصة” أيضًا لم ينتظروا قرار اللجنة وأعلنوا استقالتهم من حزبهم في 26 ديسمبر 2013. [9]
وكان أرطغرل جوناي، الذي لعب دورًا محورايًّا في انفتاح حزب أردوغان على شرائح علمانية وليبرالية عريضة، نظرا لانشقاقه عن حزب الشعب الجمهوري “العلماني”، قال في إطار تعليقه على قضية الفساد والرشوة وغسيل الأموال والتطورات الناتجة عنها: “لا ينبغي أن تكون الخطوة الأولى تغييرَ رجال القضاء بل استقالة مَن وردت أسماؤهم في تلك الادعاءات، وذلك سعياً لتأمين سلامة قضية التحقيق ونزاهتها. ولا شكّ أنه من الخطأ الكبير توجيه الاتهامات ضد رجال الأمن والنواب العامين الذين كشفوا النقاب عن هذا الفساد، وأن قيامَ الشخص المتهم، وزير الداخلية، بتغيير كوادر الشرطة في مناطق مختلفة يعتبر تدخّلاً في القضاء وانتهاكاً للقانون وذنباً لا يغفره لا الخلق ولا الخالق سبحانه وتعالى”. [10]
زميل أردوغان: قلة حاكمة سيطرت عليه
واتهم جوناي في تصريحات له في 29 ديسمبر 2013، أردوغان بتعيين أشخاص كانوا يتهمونه سابقاً بـ”بيع البلاد” و”خيانة الوطن” كمستشارين له، في إشارة منه إلى “القلة الحاكمة” التي تؤثر على قراراته، من أمثال “يكيت بولوت”، قريب دوغو برينجك، الذي سبق ذكره، و”يالجين أكدوغان” وغيرهما، القلة الحاكمة التي كان أشار إليها أيضًا وزيرُ الداخلية الأسبق “إدريس نعيم شاهين” عندما استقال من حزبه العدالة والتنمية في وقت سابق اعتراضاً على التدخلات الأخيرة في السلطة القضائية ونفْي 555 شرطيًّا شاركوا في حملات الفساد. [11]
وفي معرض رده على اتهام أردوغان المستقيلين من الحزب بـ”الخيانة” قال جوناي: “إذا استطاع أردوغان إنقاذ نفسه من التوتر النفسي المسيطر عليه، ونظر إلى المرآة فسيعترف حينها ضميره بأنه أخطأ في إطلاق وصف الخيانة على المستقيلين من الحزب. فقد وقفنا إلى جانبه في أصعب أيامه وحذرناه من السير في هذا الطريق الخطير. وإذا اعتبر تحذيرنا هذا ضرباً من الخيانة، فأعتقد أن لديه مشكلة حادة تتعلق بالتصورات النفسية التي تخطر بذهنه”.
وقال أردوغان في إطار رده عليه إنه أدلى بهذه التصريحات بعد إقالته من منصب الوزارة. [12]
كالكان: مهمة الحكومة التصدي للفساد لا حمايته
بينما شرح أردال كالكان الأسباب التي دعته إلى الاستقالة من الحزب عبر تغريدات نشرها على حسابه في موقع تويتر قائلاً: “لقد انضممت إلى حزب العدالة والتنمية إبّان سيطرة العسكر على كل شيء، والتزمت قبل رئيس الوزراء أردوغان بموقف محدد وواضح من هذا الأمر، وهو أن الأحزاب السياسية أمر لا يستغنى عنه بالنسبة للنظام الديمقراطي. غير أن الأحزب السياسية ليست مزرعة لأي أحد يمكنه أن يوظفها فيما يحلو له، بمن فيهم رئيس الوزراء أردوغان، وإنما هي من الثمار والموجودات الاجتماعية التي زرعها الملايين من الشعب، وأن السبب الأهم لوجود الحزب والحكومة هو التصدي للفساد والرشوة والسرقة واللصوصية”. ثم اختتم بقوله: “هذا الشعب العظيم يدرك ويرى كل شيء، فليكن هذا الشعب هو الحكَمَ وصاحب القول الفصل! فالشعب التركي قادر على أن يحل المشاكل الحالية. إني أعلن استقالتي من حزب العدالة والتنمية وليعلم الجميع أن الدنيا تلفّ وتدور، والشعب ليس مغفلاً، وطريقكم مسدود”، [13] على حد تعبيره.
عزل ألفي شرطي طاردوا الفاسدين
بعد عزل خمسة من مدراء الأمن، بمن فيهم المشرفون على التحقيقات عقب انطلاقها مباشرة، أطلقت حكومة أردوغان حركة نقل وعزل وطرد موسعة جدا بدعوى تطهير أجهزة الدولة ومؤسساتها من أعضاء ما سماه “الكيان الم وازي”، بحيث لم تتوقف هزاتها الارتدادية حتى يومنا هذا.
فقد كتبت صحيفة “وطن” الموالية للحكومة في 27 ديسمبر 2013 أن عدد أفراد الشرطة الذين شملتهم حركة النقل والعزل في الأسبوع الأول للتحقيقات تجاوز ألفي شرطي، وقامت الحكومة من جانب آخر بتعيين كوارد جديدة بلغت نحو ألف شرطي تعتقد أنهم “سيعملون معها بانسجام”.
تعمّق الشرخ بين مؤسسات الدولة والحكومة
في الأسبوع الثاني بدأ الشرخ الذي أحدثته تحقيقات الفساد التي طالت كبار المسؤولين بين أجهزة الدولة الموتلفة والسلطة السياسية يطفو على السطح جليًّا. فعقب الانتقادات اللاذعة التي وجهها عديد من نواب حزب أردوغان إلى جانب الأحزاب المعارضة تجاه طريقة تعامل الحكومة مع التحقيقات اتخذ مجلس الدولة في 27 ديسمبر 2013 قراراً بإيقاف تنفيذ المرسوم الحكومي الذي يوجب إطلاع الموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين كبارَ المسؤولين الإداريين على التحقيقاتِ والعملياتِ التي يديرونها قبل اتخاذ أي إجراء في هذا الصدد. إذ اعتبر المجلس قرار الحكومة منافياً تمامًا للدستور والقانون الدولي ومتناقضاً كليًّا مع مبدأ استقلالية القضاء والفصل بين السلطات، وأكد أن هذه الخطوة تهدف إلى إضعاف سلطة النيابة العامة على الموظفين المكلفين بتطبيق القوانين. [14]
مطالبات بممارسة “سياسة نزيهة”
بالتزامن مع تدخل أردوغان المباشر في السلطة القضائية ارتفعت الأصوات الداعية إلى ممارسة “سياسة نزيهة” بعيدة عن كل أنواع الفساد المالي والإداري والأخلاقي، حيث نشر في 29 ديسمبر 2013 مجموعة من الساسة شغل بعضهم مناصب وزارية وبرلمانية بياناً طالبوا فيه المرشحين في الانتخابات المحلية المقبلة بإعلان أرصدتهم البنكية وممتلكاتهم الخاصة أمام الرأي العام. وضمت المجموعة نحو مائة سياسي سابق، جاء على رأسهم النائبان الأسبقان لرئيس الوزراء في حكومة حزب العدالة والتنمية “أرطغرل يالجين باير” و”عبد اللطيف شنر”، ووزير الثقافة الأسبق “نامق كمال زيبك”، وغيرهم من الوزراء والساسة من أحزاب العدالة والتنمية والشعب الجمهوري والحركة القومية والوطن الأم والطريق القويم.
يومًا بعد يوم رفع أردوغان حدة اللغة التي يهاجم بها الأحزاب المعارضة التي كانت تنتقد مساعيه الرامية إلى إسدال ستار على مزاعم الفساد الرهيبة. إذ كان يتهمها بـ”خيانة الوطن” و”الامتداد للقوى الخارجية” و”الاصطفاف مع الانقلابيين” بل إنه أهان أكبر أحزاب المعارضة في تركيا حزب الشعب الجمهوري، واصفًا إياه بـ”القمامة”، الأمر الذي استفز نواب الحزب واتهموه بـ”محاولة التغطية على فساد حكومته بالهجوم على المعارضة”. فقد أبدى جاهد قابلان، رئيس أمانة حزب الشعب الجمهوري، انزعاجه من وصف أردوغان حزبهم بـ”القمامة”، متهمًا إياه بمحاولة تغطية ملف الفساد والرشوة بالتطرق إلى موضوعات فرعية لا علاقة لها بالقضية الأساسية وتابع بقوله: “هجوم رئيس الوزراء على هذا وذاك لن يجلب له نفعاً. فهناك فضيحة فساد لم تشهد تركيا مثلها على مر تاريخها فهذه الحكومة تأكل مال اليتيم وتسلب مستقبل هذه الأمة”. [15]
انضمت أوروبا إلى الأصوات المعارضة لأسلوب إدارة أردوغان أزمة فضائح الفساد، حيث دعت مقررة تركيا في البرلمان الأوروبي ريا أومن رويتن في 28 ديسمبر 2013 حكومة أردوغان إلى عدم التدخل في القضا، ولفتت إلى أن تطورات قضية الفساد تثير المواوف المتعلقة بمبدأ الفصل بين السلطات وإجراء التحقيقات بحيادية ونزاهة. [16]
بعد يوم واحد من تصريحات ريا أومن رويتن، صوّبت هذه المرة الرئيسة المشاركة للجنة البرلمانية المختلطة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا هيلين فلاوتر سهام انتقاداتها لأردوغان بسبب هجومه على المحققين في قضية الفساد والرشوة، ونعتت توجيه اتهاماته إلى النيابة العامة بدلاً من المتهمين الحقيقيين بـ”التصرف غير المسؤول” الذي يمنع القضاء من مزاولة مهامه بحرية وحيادية تامة دون ضغوط لكشف الحقيقة في القضية. نوهت أيضًا بأن تركيا تعيش أزمة سياسية حادّة، وأن الاتحاد الأوروبي ينبغي عليه أن يدعم المدافعين عن دولة الحقوق والقانون في تركيا من أجل إزالة اللبس القائم حول هذه القضية الشائكة.
انهالت الانتقادات الأوروبية تباعًا على التدابير التي اتخذتها حكومة أردوغان في سبيل إنقاذ متهمين مقربين منها، فقد صرح رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الأوروبي إلمار بروك في 30 ديسمبر 2013 أن تركيا في طريقها إلى دخول مرحلة لا نهاية لها، ونوه بأن القضاء التركي مستقل ونزيه ظاهريًّا وشكلياً فقط. واستشهد على ذلك بالتأثير القوي للحكومة على السلطة القضائية والذي بدا للعيان خاصة بعد قضيتي الفساد الأولى والثانية، وطالَبها بإجراء إصلاحات جدية في مجال القانون وتكثيف كل علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، بما فيها العلاقات التجارية.
أردوغان يحضّر الأذهان لقبول “الكيان الموازي”
لم يكن من السهل أن يقنع أردوغان الشعب التركي بالكيان الموازي، نظرا لأنه عَرف حركة الخدمة بمؤسساتها التعليمية والخيرية والإغاثية ونهجها السلمي في الفكر والسلوك في تركيا والعالم نصف قرن من الزمن، ولم يجد ما يؤخذ عليها عدا الدولة العميقة ومجموعة صغيرة من الفئة الإسلامية المرتبطة بـ”إيران”، وعدد محدود من ممثلي “الإسلام السياسي”. وأردوغان كان على دراية جيدة بذلك، ويسعى لتوسيع جبهة الحرب التي أعلنها على هذه الحركة لتشمل فئاتٍ وجماهيرَ عريضة أيضًا.
لذلك حاول أردوغان أن يربط قضية الفساد التي اعتبرها “انقلابًا على الحكومة” بالخلاف الذي ظهر قبيل انطلاق تحقيقات الفساد في مسألة إغلاق معاهد “التحضير الجامعي” الخاصة. فقد زعم في أحد خطاباته الجماهيرية في 28 ديسمبر 2013 أن كل ما تشهده تركيا في إطار قضية الفساد امتداد لوتيرة قرار إغلاق تلك المعاهد، ودعا مؤيديه لمقاطعتها قائلين: “تكفينا المدارس الحكومية ولا نريد سواها!”
وكذلك سعى أردوغان إلى عقد علاقة بين المشهد الظاهر عقب قضية الفساد والصورة “المقززة” التي كانت لدى قاعدته الشعبية “المحافظة” عن أحداث “جزي بارك” المجتمعية الموسعة التي كان عدّها “انقلابًا” يستهدف الإطاحة به أيضًا؛ الأحداث التي بدأت في الأساس للاحتجاج على اعتزام أردوغان تحويل مناطق خضراء واسعة في حديقة جزي بارك بمدينة إسطنبول إلى مراكز تجارية وثكنة عسكرية على الطراز العثماني. وقال في خطابه المذكور: “إن المشاركين في أحداث جزي قد سبّبوا تكبُّد تركيا خسائر كبيرة أمس، واليوم يحدث الشيء نفسه، إذ يحاولون إلحاق أكبر ضرر ببلادنا. فانظروا إلى الزيادة الكبيرة الحاصلة في فوائد البنوك والارتفاع الملحوظ في أسعار العملات الأجنبية وإلى معاملات سوق الأوراق المالية.. فكيف سيتحملون تبعات هذه المؤامرة والمكيدة! لقد التزمنا الصمت لمدة طويلة على بعض الأمور! هذه المرحلة انطلقت مع بدء النقاشات الدائرة حول المعاهد التحضيرية الخاصة، ومن ثم أوصلوا الأمور إلى هذا الحدّ.. فاعلموا جيداً أن كل ما نشاهده اليوم من أحداث تحت مسمى الفساد ليس إلا امتداد لهذه النقاشات، لذلك أدعو من هنا جميع من نذروا أنفسهم لرسالة وقضية حزب العدالة والتنمية إلى إظهار رد فعلهم إزاء تلك المعاهد قائلين: “تكفينا المدارس الحكومية ولا نريد سواها!”، على حد قوله. [17]
استقطاب حاد بين وسائل الإعلام
من جانب آخر كانت حالة استقطاب حادة تسود بين وسائل الإعلام، فالموالية للحكومة اعتبرت قضية الفساد انقلابًا أيضًا، اقتداء بأردوغان، في حين أن المعارضة الديمقراطية والليبرالية إلى جانب المؤسسات الإعلامية التابعة لحركة الخدمة والمتعاطفة معها رأتها “عملية قانونية” لا يمكن التدخل فيها. ونظرة خاطفة على عناوين بعض الصحف الصادرة عقب استقالة الوزراء الأربعة الذين وردت أسماء أبنائهم في الفساد والرشوة في 26 ديسمبر 2013 تكفي لرصد ذلك الاستقطاب. فنرى أن صحيفة “زمان” التي كانت حينها الأكثر مبيعًا في البلاد وضعت عنوان “زلزال الاستقالات”، وعدّت استقالة الوزراء الأربعة “زلزالاً سياسيا”، فيما رجّحت صحيفة “مليت” عنوان “أكثر الأيام سخونة” لتصوير المشهد المتأزم، وعنونت “بير جون” اليسارية “استقالة رائعة.. فلتستقل أنت أيضًا”، في خطاب موجه إلى أردوغان، وسارت كل من “آنا يورط” و”يني شاغ” القومية و”صول” و”آيدينليك” اليساريتين، و”طرف” الليبرالية على نفس الخط وطالبت أردوغان بالاستقالة أيضًا من خلال عناوينها.
أما الصحف الموالية للحكومة فتجانست عناوينها وكأنها عنوان واحد؛ فصحيفة أكشام اقتبست من تصريحات أردوغان ووضعت عنوان “أردوغان يقول: أنا المستهدف”، بينما رأت “ستار” قضية الفساد “انتقام ماوي مرمرة”، ونقلت من تصريحات أردوغان التي قال فيها: “قضية الفساد هدفها الانتقام من سفينة مافي مرمرة وعملية السلام الكردي، وهي مؤامرة ضد الشعب التركي”، بينما وضعت كلٌّ من “صباح” المملوكة لعائلة أردوغان، و”تقويم” و”يني شفق” عنوان “الحرب الكبرى وكفاح الاستقلال لتركيا الحديثة”، في حين أن “ميلاد” الإسلامية عنونت “انتقام ديار بكر”، زاعمة أن عمليات الفساد استهدفت منع انفتاح تركيا على الأكراد من خلال عملية السلام الكردي. لكن أردوغان أطاح بطاولة مفاوضات السلام الكردي في 2015، وتخلى عن دعمه لسفينة مافي مرمرة في 2016، متهمًا المشرفين عليها بتخريب العلاقات التركية الإسرائيلية!
حملة فساد ثالثة
قبل أن تهدأ وطأة حملتي الفساد الأولى في 17 ديسمبر 2013 والثانية في 25 من الشهر ذاته، انطلقت حملة فساد ثالثة كبيرة أيضًا في 29 من الشهر نفسه، كان لها أثر القنبلة في الأوساط السياسية. إذ قرر قاضي المحكمة في إسطنبول سليمان كاراجول اتخاذ تدابير قانونية بحق سبعة من كبار رجال الأعمال معروفين بقربهم للحكومة وعدد من الشركات، وذلك بتهمة “تشكيل وإدارة منظمة لارتكاب جرائم” و”العضوية فيها” و”ممارسة الفساد في المناقصات” و”استغلال النفود ودفع الرشاوى” و”الإضرار بالمال العام”.
وشمل قرار اتخاذ التدابير القانونية كلاً من رئيس مجموعة وسلسلة “بيم ماركت” مصطفى لطفي طوبَّاش، ورئيس مجلس إدارة مجموعة شركات “قاليون” للإنشاءات جمال قاليونجو، وعضو مجلس الإدارة في نفس المجموعة عمر فاروق قاليونجو، ورجل الأعمال أسامة قطب المصري، ورئيس مجموعة جنكيز هولدينج محمد جنكيز، وشريك شركة الاتصالات التركية تورك تليكوم وعضو مجلس الإدارة فيها عبد الله تيفنكلي، ورجل الأعمال وصاحب شركات لتصنيع الملابس الجاهزة جنكيز أق تورك. [18]
رفْض القوات الأمنية تنفيذ قرارات الاعتقال والاستدعاء للاستجواب في إطار قضية الفساد الثانية بإشراف النائب العام معمر أكاش، وسحب الملفات من الأخير، وإحالته إلى نائبين عامين آخرين موالين لأردوغان، بعد اقتران اسمي نجلي أردوغان بهذه القضية، أثار استياءً كبيرًا في الساحة السياسية والرأي العام، واعتُبر التدخل السافر في السلطة القضائية “لطخة سوداء” على جبين السلطة السياسية. وقد وجه في 30 ديسمبر 2013 رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الحركة القومية المعارض أوكطاي فورال دعوة إلى أردوغان للسماح لنجليه بلال وبراق بالذهاب للنيابة العامة والإدلاء بأقوالهما في تحقيقات الفساد الثانية. وأكد في مؤتمر صحفي عقده بمقر البرلمان أن تركيا تعيش أزمة حقيقية بين السلطتنين القضائية والتنفيذية، وأن أردوغان يقضي على دولة القانون التي تحفظ حقوق الشعب ومكتسباته. ووجه خطابه لأردوغان قائلاً: “لماذا تخاف من استجواب نجليك يا ترى؟ دعهما يذهبا للنيابة ليظهر كل شيء على حقيقته! وكيف لك أن تدافع عن المتهمين في قضية قبل أن يقول القضاء كلمته فيها؟ دع القضاء وشأنه دون ضغوط كي يتمكن من التحقيق بحيادية ونزاهة”. [19]
وزير الداخلية يعترف بتدخله في القضاء
في الوقت الذي كانت تستمر فيه نقاشات حادة حول ضرورة استقلال القضاء خرج وزير الداخلية الجديد أفكان علاء على شاشة قناة تي آر تي(TRT) الرسمية في 29 ديسمبر 2013 معترفا بتدخل الحكومة في عمل القضاء، حيث قال: “يقول البعض إن الحكومة تدخلت في عمل القضاء وكأن القضاء معصوم عن الخطأ وكل ما يفعله حق!”. تطرق الوزير المنتمي إلى “التيار الإيراني” في تركيا أيضًا إلى حركة الإقالات والتغييرات الجماعية التي طالت القيادات الأمنية في مختلف مديريات الأمن بسبب الحملة التي شنتها ضد المتهمين في إطار قضية الفساد الأولى والثانية قائلاً: “إن المسألة بسيطة للغاية! فهل من المعقول أن يبقى هناك في جهاز الأمن مَن ينصب كمائن ومكائد ضد السياسة” على حد وصفه.
وزراء أردوغان ينفون وجود الكيان الموازي
وعلى الرغم من إكثار أردوغان من استخدام مفهوم “الكيان الموازي”، الذي كان يقصد به توغل المتعاطفين مع حركة الخدمة في مؤسسات الدولة، وتشكيلهم “دولة داخل دولة”، بحسب رأيه، بعد أن كان يطلق هذا الوصف على منظمة كي جي كا، اتحاد المجتمعات الكردستانية، الهيئة الإدارية العليا لحزب العمال الكردستاني المصنف تنظيمًا إرهابيا لدى تركيا، إلا أنه ظهر مقطع فيديو لنائبه حسين جليك، الذي شغل منصبي وزير الثقافة والتعليم في حكومات أردوغان، ينفي فيه هذه التهمة من الحركة، الأمر الذي وضع أردوغان في موقف حرج. فقد قال جليك بأسلوب ساخر في هذا المقطع في 20 فبراير 2012، أي قبل أقل من عامين من تحقيقات الفساد: “يقولون: إن حركة الخدمة تسربت إلى مفاصل الدولة واستولت على أجهزتها..! تضحك على مثل هذه الشائعات حتى الغربان..! علينا أن نضع هذه المخاوف جانباً لأنه ليس لها أساس من الصحة”. [20]
وما قاله وزير العدل السابق بكر بوزداغ في هذا الصدد واضح للغاية لا يحتاج إلى أي تفسير، حيث نفى تهمة الكيان الموازي والتسلل إلى مؤسسات الدولة بشكل قاطع، في تصريحات أدلى في البرلمان: “يمكن أن تحبوا فتح الله كولن، ويمكن أن تكرهوه، لكنه رجل محب لوطنه، وقدم –ومازال- يقدم خدمات جليلة خاصة في مجال التعليم.. لكن البعض يتهم محبيه باختراق مؤسسات الدولة وتشكيل دولة موازية.. فهذه الادعاءات خالية عن الصحة تمامً، ذلك لأن تلك المؤسسات تعمل وفق القانون وخاضعة لتفتيش ومراقبة الدولة دائمًا”. [21]
في حين أن وزير الجمارك والتجارة حينها حياتي يازيجي أكد في تصريحات لصحيفة “حريت” أنه لا يؤمن بصحة فرضية “الدولة الموازية”، مؤكداً أن “هذه الفرضية تحتاج إلى أدلة وبراهين لا تحتمل الشك كي تثبت صحتها”. كما اعترض يازيجي وصف قضية الفساد بـ”الانقلاب” قائلاً: “لا يمكن بأي حال من الأحوال إضفاء صبغة الانقلاب على قضية الفساد”، وتابع: “ربما يرغب بعض الأشخاص أو الجماعات في الوصول إلى مراكز مهمة داخل الدولة. وما دام أنهم يؤدون وظائفهم ضمن الدستور والقانون دون إخلال أو تقصير فلا يمكن لأحد أن يلصق بهم الاتهامات الباطلة. أما إذا تجرأ أحدهم على الإخلال بالقوانين، وتلقى تعليمات من خارج المؤسسة التي يعملون بها، وتم إثبات ذلك، فحينها يعتبّرهذا التصرف جريمة يعاقب عليها القانون”.
وهذه التصريحات وأمثالها تكشف عدم وجود اتفاق في الآراء حول مفهوم الكيان الموازي الذي حاول أردوغان ربط قضية الفساد به جاهدًا إثبات أن تحقيقات الفساد مؤامرة تستهدف حكومته بل المكتسبات الديمقراطية والاقتصادية التي حققتها تركيا في ظل حكمه. على الرغم من ذلك فإن أردوغان بفضل قوته الإعلامية استطاع تحويل هذا الكيان، بغضّ النظر عن كونه حقيقة أو وهما، إلى طوق نجاة لنفسه، بل إلى ورقة رابحة على مدى سنوات قادمة استوخمها كدرع للدفاع عن نفسه وجماعته أو كسيف للهجوم على خصومه وأعدائه.
[1] http://www.hurriyet.com.tr/haberleri/huseyin-capkin-gorevden-alindi
[2] http://www.hurriyet.com.tr/gundem/iste-hsyk-nin-yaptigi-aciklamanin-tam-metni-25448975
[3] https://www.cnnturk.com/turkiye/erdogan-bayraktar-basbakan-da-istifa-etmeli
[4] https://t24.com.tr/haber/ntvden-bayraktarin-basbakan-istifa-etmeli-sozlerine-sansur,246893
[5] http://www.samanyoluhaber.com/web-tv/mustafa-kamalaktan-carpici-analizler-6826-video-haberi/
[6] https://www.sabah.com.tr/gundem/2014/01/17/polisten-savciya-kanuna-aykiri-emir-suclamasi
[7] https://odatv.com/erdoganla-anlasip-hapisten-ciktilar-2812151200.html
–https://twitter.com/tolgademir96/status/1176319267685457920?s=20
[8] https://www.ensonhaber.com/muammer-akkastan-basin-aciklamasi-2013-12-26.html
[9] https://www.bbc.com/turkce/haberler/2013/12/131227_gunay_istifa
[10] https://www.sozcu.com.tr/2013/gundem/ertugrul-gunay-istifa-etti-ertugrul-gunay-neden-istifa-etti-431430/
[11] https://t24.com.tr/haber/eski-icisleri-bakani-idris-naim-sahin-akpden-istifa-etti,246908
[12] https://www.haberler.com/basbakan-erdogan-dan-gunay-a-haddini-bil-cevabi-5480523-haberi/
[13] http://www.hurriyet.com.tr/gundem/ak-partili-vekil-twitterdan-istifa-etti-25450356
[14] https://www.sozcu.com.tr/2014/gundem/hsyk-uyelerinden-flas-aciklama-439073/
[15] https://www.haberler.com/kaplan-erdogan-chp-ye-saldirarak-yolsuzlugun-5488235-haberi/
[16] https://www.ab.gov.tr/files/ilerlemeRaporlariTR/2014_ilerleme_raporu_tr.pdf
[17] http://www.cumhuriyet.com.tr/haber/siyaset/46887/erdogandan-cemaate-bunlar-tam-hashasi.html
[18] https://haber.sol.org.tr/devlet-ve-siyaset/yedi-isadaminin-mallarina-tedbir-karari-haberi-84963
[19] https://video.memurlar.net/video/23649/vural-dan-basbakan-a-evladin-gitsin-ifade-versin.html
[20] https://www.youtube.com/watch?v=MvEMcMSDvo4
[21]https://www.youtube.com/watch?v=OQEd67vsE0M–https://www.youtube.com/watch?v=EjhWCzcMK48