بقلم: صالح القاضي
القاهرة (زمان التركية) – إن العواقب الرئيسية التي حالت دون بلوغ الإنسانية إلى أفقها الأصلي على مدار تاريخنا البشري لم تكن تلك العواقب المادية الخارجية، فالإنسان استطاع وفي أصعب المناخات والجغرافيات أن يقيم وأن يتأقلم مع الطبيعة من حوله، وأن يتقدم خطوات نحو التطور وبناء الحضارة. هذا ما حدث منذ آلاف السنين ولا زال يحدث اليوم أيضا، إلا أن الصخرة التي اعترضت طريق الحضارة دوما كانت تلك العثرات التي يرتطم بها الإنسان داخل ذاته.
إن الذات البشرية وما يعتريها من معارك داخلية هي في حد ذاتها بوصلة الحضارة؛ فعندما استطاع الإنسان التغلب على أنانيته الذاتية وتحلى بحب مجتمعه وإنسانيته قام بتحقيق الكثير والكثير، ليس فقط لمجتمعات عصره بل للمجتمعات الإنسانية بأجيالها المتوالية. ولو أعطينا مثلا من أمثلة عديدة في تاريخنا البشري، فسنذكر النهر الأصفر في الصين، وكيف أن فيضاناته كانت تدمر القرى والمدن في طريقها. وكان من الممكن أن يستمر الوضع على ما هو عليه أو يترك الإنسان تلك الأراضي الخصبة، إلى أن جاء المهندس “يو” الذي عكف 13 سنة يحاول وجموع من البشر أن يقوموا بحفر قنوات ليتم التحكم في فيضان النهر الأصفر. ولا يمكننا كإنسانية أن ننسى الخليفة عمر بن الخطاب وهو يبحث عن العدل حتى مع خادمه، فيدخل على مشارف القدس، تلك المدينة العريقة، وخادمه يركب على الدابة وهو يسوقها، وذلك يوم أن كان هو خليفة وقائدا لدولة اتسعت أقطارها وامتدت لتصبح قوة في التوازن الدولي آنذاك، إلا أنه كان بطلا منتصرا في ميدان نفسه.
إن المعركة الحقيقية هي معركة الجشع، لقد شهدنا في تاريخنا البشري كثيرا ممن انهزموا أمام شجع نفوسهم فضحوا بالأبدية مقابل حفنة من النقود. ويحضر إلى ذاكرة الإنسانية خيانة يهوذا الإسخريوطي مقابل 33 قطعة فضة.. يا لها من حال بئيسة لذلك الذي ينهزم أمام شجع نفسه ونظرها الضعيف. هل يمكننا أن ننسى ذلك الجشع للقوة الذي أودى في واحدة من أحلك لحظاتنا التاريخية حينما أطلق أشخاص الشجع لأنفسهم ليقتلوا في لحظة واحدة 140 ألف شخص والكثير من الدمار والمرضي.
نعم إن الحضارة الحقيقية هي مسألة وعي قيمي، فلا يمكن لأشخاص انهزموا داخليا أن يحققوا انتصارات تخدم الإنسانية، ولا يمكن للمنهزمين أمام جشع نفوسهم أن يحققوا الإصلاح أو الفائدة للبشرية، فكل أفعالهم لن تكون سوى صدى لهذيان الشجع، بينما السعداء على الحقيقة المنتصرين في ساحة نفوسهم هؤلاء على مدار التاريخ هم العلامات ناصعة البياض، وهؤلاء هم من سيعدلون مسار حضارتنا اليوم لتحيا الأجيال القادمة في خير وسعادة وهي على دراية بتلك المعارك الداخلية وكيف لها أن تنتصر في ميدانها.
يقول الأصمعي في شعر له:
وما زلتُ أسمعُ أنَّ العقو لَـ مصارُعها بين أيدي الطَّمع
فبذلك الطمع يخسر الإنسان ويخسر المجتمع وتخسر الإنسانية، والسعادة تكمن في التفاني والخير وحب الإنسانية.