بقلم: شيفان أوكتشو أوغلو، موقع “أودا تيفي” التركي
ما مدى صحة الادعاءات التي تثار حول مشروع خط أنابيب الغاز من قطر إلى تركيا، ودوره في المذابح والمجازر التي تشهدها سوريا وأدت إلى موجات كبيرة من الهجرة أثناء التطاحنات القائمة وتبعياتها؟
يرى بعض المحللين أنه في حالة عدم حل أزمة قطر بشكلٍ سريعٍ، فإن الأزمة قد تأخذ طريقها في اتجاه حليفتها تركيا، وأن الحلفاء السابقين سيبدأون في تخليص الحسابات مع الرئيس رجب طيب أردوغان بطريقة مماثلة أيضًا. ولكن ما طبيعة العلاقات التي تجمع بين أردوغان وقطر؟ للإجابة على هذا السؤال، بحثنا وتعمقنا بين صفحات وكتب الأرشيف، وسلطنا الضوء مرة أخرى على بعض الادعاءات والروايات الخطيرة التي ظهرت قبل عدة سنوات.
عندما بدأ جيران قطر بفرض مقاطعة سياسية واقتصادية عليها يوم الاثنين الماضي (مطلع شهر يونيو/ حزيران 2017) بشكلٍ غير مسبوق، سارع حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بالوقوف إلى جانب قطر، وأعلن أنه على استعداد للوساطة بين الأطراف للتوصل إلى حل للخلاف. يرى البعض أن تهافت أردوغان وتوتره من الأزمة إلى هذا الحد يكشف أنه يرى أن الدائرة ستدور عليه بعد قطر.
إذا كان هذا الادعاء صحيحًا، فبالتأكيد هناك مبررات تدفع أردوغان للتفكير في أنه سيكون “كبش فداء” في الأزمة السورية، وأن هناك مساعي لإلقاء كل الجرائم المرتكبة في سوريا على تركيا وقطر فقط، بينما ستخرج أصابع باقي الدول الأخرى من القضية مثل “الشعر في العجين”.
اتهامات بالتواطؤ على الجريمة في سوريا
ولمعرفة السبب وراء كل ذلك، يمكن الاطلاع على مقال روبرت ب. كيندي المنشور على موقع “politico.eu” (السياسية) خلال عام 2016. نشر المقال في فبراير/ شباط 2016 تحت عنوان “لماذا لا يحبنا العرب؟”. ونشرت ترجمتها إلى اللغة التركية على موقع “Odatv” الإخباري التركي بعنوان: “لما أعلن بشار الأسد أنه لن يوافق على هذا المشروع، أشعلت المخابرات الأمريكية (CIA) فتيل التمرد والثورة (1)”.
وقد قدم روبرت كينيدي تلخيصًا لتورط تركيا وقطر في الملف السوري وعلاقتهما بداعش، معللًا الأسباب والدوافع لذلك. وأشار إلى تسريبات موقع ويكيليكس التي تحدثت عن وجود وثائق حول مشروع خط الغاز المخطط وصوله من قطر إلى تركيا. وتكشف الوثائق التي وصفها الموقع بـ”السرية للغاية” أن مشروع خط الأنابيب بين قطر وتركيا هو السبب الرئيسي لإشعال الحرب في سوريا.
ظلت مقالة كينيدي تتصدر قوائم المقالات الأكثر قراءة وتعليقًا لأشهر؛ حيث يرفع الستار عن الأسباب الحقيقية لإصرار تركيا على رحيل الرئيس السوري بشار الأسد. وانتشرت بعدها العديد من الكتابات والمقالات المشابهة لها من تيارات مختلفة، مع وجود مقالات أخرى تعترض على هذه الأطروحة (2).
مساعٍ للبحث عن خط غاز بديل والعلاقة بين قطر وداعش
ومع أن جاريث بورتير يشير في مقاله على موقع “truth-out.org” إلى خطأ الزعم بأن مشروع خط أنابيب الغاز المزمع بين قطر وتركيا هو السبب وراء الحرب المشتعلة في سوريا، إلا أنه يعترف بوجود مثل هذا المشروع بين البلدين.
إذا فرضنا أن صحة الوثائق المسربة على موقع ويكيليكس، فإن ما قاله كينيدي في مقاله يخرج من خانة الافتراضات والتكهنات إلى عالم النظرية الفرضية. وفي حالة ما إذا كان محتوى المقال يعكس الحقائق، فإن هذا يعني أن الدائرة ستدور على تركيا آجلاً أم عاجلاً، وأن الوقت قد حان لعقاب قطر وتركيا المتهمتين بلعب الدور الأكبر في حالة عدم الاستقرار التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط. وبالتأكيد سيكون أردوغان وداود أوغلو أول المحترقين في هذه النيران.
فالادعاء يقول: شهد عام 2009 توقيع اتفاق بين قطر وتركيا. وكانت قطر التي تتربع على عرش أكبر دول العالم من حيث إنتاج الغاز تواجه مصاعب كبيرة في إيصال الغاز المسال إلى الدول الأوروبية. ونظرًا لأن دولة قطر عبارة عن شبه جزيرة، لها حدود برية مع المملكة العربية السعودية فقط، فإن هذا يعني أن خط أنابيب الغاز سيمر عبر أراضيها. لكن مد خط الأنابيب عن طريق البحر من الخليج العربي وخليج البصرة كان سيرفع تكلفة الغاز القطري ويجعله غير مرغوب فيه. لذلك قررت قطر والسعودية تمرير مشروع خط أنابيب الغاز إلى تركيا دون إسالته، على أن تتم عملية الإسالة للغاز القادم إلى ميناء الإسكندرونة في محطات التكرير في تركيا، ثم تحميله على السفن والناقلات ونقله إلى أوروبا. وعندها ستكون تركيا المتحكمة في صنبور الغاز في المنطقة وتجني أموالا هائلة، بينما ستجلس لتستمتع بمشاهدة روسيا وهي تفقد سيطرتها في المنطقة.
هناك عديد من المزاعم التي تحاول الكشف عن جريمة أوروبا في الأزمة السورية وظهور وترعرع تنظيم داعش الإرهابي، وأسباب دعم روسيا لسوريا. منها: أن حقول البترول والغاز الموجودة في بحر قزوين حققت لروسيا الخروج من الانهيار الاقتصادي الذي صاحب انهيار الاتحاد السوفيتي، واسترجاع مكانتها وحجمها العملاق على مستوى العالم، والعودة للساحة الدولية كعملاق إنتاج الطاقة.
كانت أوروبا مضطرة إلى تلبية حاجاتها من الغاز من روسيا، وهذا الأمر كان يجبرها على الصمت وغضّ النظر عن سياسات روسيا وخطواتها رغم اختلافها مع وجهة نظرها. ففي حالة اتخاذ روسيا قرارًا بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا، فإن هذا يعني تعرض ملايين الأوروبيين للتجمد وسط الشتاء نتيجة نقص إمدادات الغاز المشغل للمدفئات المنزلية، مما دفع أوروبا للبحث عن خطوط إمداد بديلة، إلى أن توصلت إلى تفاهم وتقارب بشأن خط أنابيب غاز قطر – تركيا.
خط الغاز القادم من قطر من المفترض أن يمر عبر الأراضي السعودية، ومنها إلى الكويت والأردن إلى أن يصل إلى سوريا ومنها إلى تركيا. وكان من المتوقع أنه في حالة سماح الدول العربية لاستخدام أراضيها لمرور خط الغاز من قطر ليتم تصديره إلى أوروبا عبر تركيا، سيقل اعتماد أوروبا على إمدادات الغاز الروسية، الأمر الذي يحسب لصالح أوروبا التي تحاول تدعيم جبهتها في مواجهة روسيا.
اعتراض الأسد على مشروع أنابيب الغاز القطري التركي
إلا أن الرئيس السوري بشار الأسد أعلن رفضه لعبور خط الغاز من أراضيه. ويعزو الخبراء والمحللون رفض بشار الأسد المشاركة في اللعبة المحاكة ضد روسيا لعدة أسباب؛ منها أنه اعتاد على سدّ حاجته من السلاح من روسيا، استكمالاً لسياسات أبيه في هذا الصدد، وكذلك أدرك جيدًا أن بقاء روسيا وإيران قويتين من الناحية الاقتصادية يعني استمرار الدعم الروسي والإيراني له ضد أعدائه في المنطقة التي باتت بمثابة “مائدة الذئاب”.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تقدم بشار الأسد مثالًا يحتذى به، ولقبته بـ”القائد الإصلاحي”؛ وكان يخرج في عطلات عائلية مع الرئيس أردوغان الذي كان يخاطبه “بصديقي الأسد”، إلا أن دول المنطقة أعلنته بين ليلة وضحاها “شخصًا غير مرغوب فيه”، بعد اعتراضه على هذا المشروع. عقب ذلك بدأ العد التنازلي لبشار الأسد. وعلى خلفية فشل أردوغان في إقناع بشار الأسد بالمشروع، وإصرار الأسد على الوفاء بوعوده لروسيا، عقدت الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وبعض الدول العربية تحالفًا ضد روسيا، ومن ثم بادرت إلى إسقاط الأسد الذي كانت تراه “عائقًا صغيرًا” بحجة دكتاتوريته، وتسليم إدارة سوريا لإحدى الدمى التي تدين بالولاء لها، لكن هناك ادعاءات تقول إن أيادي الأسد هي كذلك ليست نظيفة في هذا الأمر.
تزعم الروايات أن بشار الأسد كان يسمح للعناصر الجهادية والمقاتلين المتشددين القادمين من أوروبا بالعبور إلى الأراضي العراقية لمواجهة القوات الأمريكية التي كان يكنّ كراهية شديدة تجاهها. وكان المجاهدون يصلون من أوروبا إلى سوريا جوًا، ثم يعبرون الحدود إلى العراق عن طريق حافلات خاصة بالجيش السوري.
وإذا كان هذا الادعاء صحيحًا، فإن الأسد اعتقد أن هذه العناصر المسلحة المتطرفة قادرة على إجبار القوات الأمريكية على مغادرة المنطقة، ولكنه لم يكن يدرك في ذلك الوقت أن الدائرة ستدور عليه وسيذوق مرارة هجمات ولدغات الإرهابيين الإسلامجيين الذين أدخلهم إلى العراق بنفسه.
رأت الولايات المتحدة الأمريكية عند مغادرتها للعراق بعد مدة طويلة أن إعادة كل الأسلحة والمعدات العسكرية ستكون مكلفة للغاية، مما دفعها لتقديمها إلى الجيش العراقي. وبالتزامن مع اتخاذ القرار بالإطاحة بالأسد، فإن تنظيم القاعدة كان تحوّل إلى تنظيم الدولة “داعش” بعد تغير قائده. وكان أول ما قام به هذا التنظيم الدموي هو إغراق الجيش العراقي في خسائر ضخمة بسرعة كبيرة ومفاجئة، والاستيلاء على الأسلحة والمعدات الأمريكية التي تركتها للجيش العراقي، الأمر الذي جعله يبسط نفوذه في المنطقة بشكل هائل وأهلها ليتولى بمهمة الإطاحة بالأسد، وتتحوّل مقاومة المعارضة السورية التي أشعل فتيلها جهاز الاستخبارات الأمريكية (CIA) إلى حرب إقليمية.
بوتين لم يترك الأسد وحيدًا
وهنا ظهر الدور السعودي والقطري في تمويل الجهاديين العرب والأوروبيين الذين كانوا يديرون حربًا بالوكالة في سوريا، عن طريق إرسال الأموال لهم بطريقة مباشرة أو عن طريق تركيا، وذلك تحت علم ودراية من الولايات المتحدة الأمريكية. كان من المقرر أن يطاح بالأسد، ليصعد بعدها إلى سدة الحكم في سوريا الإخوان المسلمون، ويتمكنَ أردوغان من تمرير المشروع المحاك ضد روسيا عن طريق أصابعه الإخوانية في الحكومة الجديدة. إلا أن الأسد أبدى مقاومة غير متوقعة وقرر اللعب بالنار والتضحية بنفسه من أجل حماية حليفه فلاديمير بوتين، وهو بدوره لم يتركه وحيدًا في هذه الحرب وحاول إفشال هذه الخطة المدبرة ضد روسيا.
بفضل الدعم العسكري والسلاح الذي حصل عليه من روسيا من ناحية، ومن ناحية أخرى السلاح الذي حصل عليه من إيران بالإضافة إلى قوات الحرس الثوري المتواجدة على أرضه، تمكن الأسد من السيطرة على المنطقة في مواجهة داعش. إلا أن صبر الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس السابق باراك أوباما كان قد نفد أمام فشل داعش في إسقاط نظام الأسد، خوفًا من ردود فعل الرأي العام، رغم أن قطر والسعودية كانتا فتحتا صنبور الأموال التي وصلت إلى المليارات لصالح داعش في سبيل تمرير خط الغاز هذا.
قرأت الإدارة السعودية الموقف الأمريكي الجديد من داعش والأسد بشكل صحيح وأقلعت عن تزويد الحرب في سوريا بالمساعدات المالية والعسكرية، بينما استمرت تركيا وقطر في تغذية المعارضة السورية بالمال والسلاح، حيث كانتا تهاجمان الأسد الذي أفشل هذا المشروع التركي القطري وكأنهما أقسمتا على الإطاحة به.
هبوب الرياح في الاتجاه المعاكس لتركيا
وبعد أن تأكد الفشل في سوريا، بدأ الرأي العام العالمي والداخل التركي يتساءل عن دور أردوغان في الحرب السورية. وبدأت وسائل الإعلام العالمية تتهم قطر والسعودية بدعم التنظيمات الإرهابية المتطرفة في سوريا من جانب، ومن جانب آخر كان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أعلن أن بلاده لديها أدلة قاطعة على دعم تركيا للإرهابيين في سوريا ماديًّا وعسكريًّا، ومن جانب ثالث كان رئيس تحرير جريدة “جمهوريت” التركية السابق جان دوندار نشر خبرًا مصوَّرًا يكشف عن شاحنات الاستخبارات التركية المحملة بالأسلحة والعتاد العسكري في طريقها للعبور إلى الجانب السوري. إلا أن أردوغان بفضل سيطرته على الإعلام والصحافة تمكّن من التستر على هذه الحادثة أو تغيير ماهيتها وتشويه صورتها، ولم يبق إلا قلة قليلة من وسائل الإعلام أصرت على إبقاء هذا الملف مفتوحًا. أما الصحافة الدولية فلم يكن بإمكان أردوغان تكميم أفواهها.
وعقب اندلاع أحداث منتزه جيزي في يونيو/ حزيران 2013، ساءت علاقة أردوغان بحلفائه الغربيين، وبعد مرور 6 أشهر فقط أي في 17-25 ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه طفت إلى السطح فضائح وملفات الفساد والرشوة التي تورط فيها أردوغان وأفراد من عائلته ومقربون منه. ومن ثم ظهرت إمكانية سحب البساط من تحت قدمي أردوغان من خلال مساءلة دوره في الألاعيب والمخططات المنفذة في المنطقة ومحاسبته لخروجه على القانون الدولي في التعامل مع القضايا الإقليمية.
حمل فاتورة الأزمة السورية على قطر وتركيا
ومع أن مشروع خط الغاز المذكور كانت طرحته قطر وتركيا باعتباره مشروعًا مشتركًا بين البلدين، إلا أنه حظي أيضًا بدعم عديد من البلدان التي ستستفيد من المشروع، كما تولت سويًّا مهمة إزالة العقبة (الأسد) التي تقف حجر عثرة أمام هذا المشروع. غير أن تلك البلدان لما لاحظت في الفترات اللاحقة الفشل الذريع الذي منيت به في سوريا، فضلاً عن تحوّل المنطقة إلى جحيم، خرجت وانسحبت واحدة تلو أخرى من هذه اللعبة، مع توجيه انتقادات للمشهد الدموي الذي ظهر نتيجة هذا الصراع في سوريا لكي لا تهرب من تبعات الذنوب المرتكبة فيها، ولم يبقَ في الساحة حاليًّا سوى قطر وتركيا. وفي نهاية المطاف تواجه قطر اليوم مقاطعة إقليمية غير مسبوقة، في حين أن أردوغان يتوجس خيفة من مواجهة المصير ذاته في الأيام المقبلة.
وكما هي الحال في لعبة الكراسي، فإن كل بلد من بلدان المنطقة استطاع أن يحجز له كرسيًّا في هذه اللعبة، ما عدا قطر وتركيا، لذلك يبدو أن العالم قرّر أن تتحملا فاتورة الأزمة السورية ومشكلة داعش بعد أن تسببتا في اندلاعها بسبب مشروع الغاز سالف الذكر!