بقلم: ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – يتفق كل المفكرين والمحللين الذين لا يتغذون على نعم “السلطة” الحاكمة في تركيا على أن الأخيرة كما تمارس “سياسة العصا والجزرة” على خصومها السياسيين، كذلك تتبع الطريقة ذاتها في تشويه مجموعات مدنية تراها معارضة لنفسها وحجر عثرة أمام مشاريعها في داخل البلاد وخارجها.
لقد استطاعت الحكومة التركية حتى اليوم الإطاحة بمنافسيها السياسيين من خلال تصفيتهم أو شراء ذمتهم أو نقلهم إلى صفوفها بشكل أو آخر، وطبقت النهج ذاتها في تشويه صورة منظمات مجتمع مدنية أو مجموعات إسلامية، وذلك من خلال “استصدار فتاوى” من مؤسسة الشؤون الدينية أو “علماء” ينتمون إلى جماعات إسلامية مسيسة تسود بين الطرفين “علاقة مصلحة”.
إسقاط كل فكر يعارض “الحكومة”
محاولات الحكومة الرامية إلى بسط نفوذها على كل مجالات الحياة سواء كانت سياسية أو مدنية لا تقتصر على تركيا فقط، بل تتجاوزها لتمتد إلى كل أنحاء العالم الإسلامي التي يوجد بها ممثلون لتيار الإسلام السياسي قابلون للتوظيف. إنها تستغل بعض الأشخاص المنتمين إلى تلك الجماعات أو أعضاء مجالس العلماء في توجيه انتقادات وافتراءات للمجموعات المستهدفة تصل أحيانًا إلى حد التضليل والتكفير.
بعد أن تمكن حزب العدالة والتنمية من السلطة في تركيا عقب فوزه بالحكومة للمرة الثالثة على التوالي في 2011 بدأ يرى نفسه على رأس “التيار الإسلامي” بل كل المسلمين. وبموجب هذه الرؤية لا يترك “العدالة والتنمية” ورادة ولا شاردة إلا ويلجأ إليها من أجل إسقاط كل فكر ونموذج تمثله مجموعات ترفض “المبايعة المطلقة” له، وتعارض “تأميمها”، وتصرّ على استقلالها وعملها في الميدان المدني. لا شك في أن الداعية والمفكر الإسلامي فتح الله كولن وحركة الخدمة التي تستقي من فكره يأتيان في مقدمة تلك المجموعات التي يحاول الحزب الحاكم تلطيخ سمعتهما والحطّ من قيمتهما في نظر الرأي العام، وذلك عبر توظيف علماء رسميين يتلقوْنَ رواتبهم من يده أو موالين له يحصلون على “هدايا” منه مقابل هذه المهمة المشؤومة.
محاولات النيل من مؤلفات كولن
لذا نرى من حين لآخر يخرج واحد ممن يعتبرون أنفسهم “علماء” ويصدرون “فتاوى”، سواء كان في تركيا أو في أي بقعة من العالم الإسلامي، لإسناد التخريف والتحريف والتضليل إلى المؤلفات التي كتبها الأستاذ كولن في ضوء المصادر الإسلامية الأصيلة قرآنًا وسنةً. علمًا أن مؤلفات كولن كما أنها حصلت على “موافقة” من أبرز اللجان والمجالس العلمية المرموقة في العالم الإسلامي، وعلى رأسها مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف، كذلك هو من الشخصيات الفكرية والعلمية التي لم يكتب عن فكره باحثون في المجال الإسلامي فقط بل كتب عنه أيضًا باحثون ومفكرون ممن ليسوا مسلمين من غرب العالم وشرقه وشماله وجنوبه. ولو ذكرنا هنا عدد البحوث ورسائل الماجستير والدكتوراه والكتب التي درست فكره من جوانب شتى لن يسع له حجم هذا المقال.
التوظيف السياسي للدين
كما قال الكاتب الصحفي المنحدر من التيار الإسلامي في تركيا لفنت جولتكين: “إنْ سحبنا الدين من يد أردوغان فإنه سيصبح مثل السمك الذي خرج من الماء! إذ لن يبقى لديه عندئذ أي شيء، لا الحياة ولا الفلسفة ولا الفن ولا الاقتصاد..”، فإن الحزب الحاكم منذ أن تحول من “حزب جماهيري محافظ ديمقراطي” إلى “حزب إسلامجي مصلحي سلطوي”، أخذ يستخدم كل الشعائر الإسلامية كـ”دروع” للدفاع عن نفسه ولو كان مخطئا، وكـ”رماح” للهجوم على خصومه ولو كانوا محقين.
ولن نكون مبالغين إذا قلنا إن أعظم خطر يواجهه المسلمون اليوم عامة هو احتكار السلطة الحاكمة في تركيا “الإسلام” في ذاتها، فهي تتخذ من الإسلام قلعة تتحصن بها تجاه أدنى انتقاد أو تصحيح أو توجيه، وتعتبر محاسبتها محاسبة الإسلام. وانطلاقا من ذلك، تقدم ممارساتها مهما كانت وكأنها متطلبات الإسلام؛ لكي تضفي عليها شرعية دينية، دون أن تبالي بأن ذلك يفتح الباب حتما على مصراعيه أمام الجاهلين أو المغرضين ليلصقوا بالإسلام كل الأخطاء أو الجرائم التي ترتكبها.
اللهاث وراء مصالح سياسية
ولا شك أن ربط مصير دين كالإسلام بحزب فان زائل، في الوقت الذي لم يربط فيه ربنا عز وجل بقاء دينه ببقاء أحب الرسل إليه – رضوان الله عليهم أجمعين – لهو الداء الحقيقي الذي نعاني منه كمسلمين في الوقت الراهن. لماذا ينسى المسلمون التحذير الإلهي الوارد في الآية الجليلة (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) ويبادر إلى حمل زعمائهم ما لا يحملونه يا ترى؟
اللهاث وراء مصالح سياسية ولو على حساب مبادئ إنسانية عالمية مشتركة، يجعل الساسة يرون كل شيء من حولهم، من مادة أو معنى، “شيئا” قابلا للاستخدام والتوظيف. هذا النوع من رجال الساسة يضحون حتى بمقدساتهم في سبيل تحقيق أغراضهم، وهم لا يستطيعون أن يعيشوا بدون أعداء، حتى إن لم يوجد أعداء فهم يخلقونهم بأنفسهم ليستمدوا شرعيتهم منهم؛ لأنهم مفتقرون إلى مقومات ذاتية لتسويق أنفسهم وسياساتهم الفاشلة.