بقلم: أحمد كورو
عرضت مجلة (ذي تايم) الأمريكية في عددها الصادر في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2011، لمحة عن أردوغان وسياسته الخارجية وموقفه من الربيع العربي.
خصصت المجلة الغلاف الخاص بالعدد لصورة خاصة برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مع سؤال حول سياساته في تقرير بعنوان: ” قائد تركيا ذو الخلفية الإسلامية جعل من بلاده قوة إقليمية علمانية ديمقراطية، وصديقة للغرب؛ لكن هل سيستطيع نموذجه أن ينقذ الربيع العربي؟”.
لكن الحقيقة أنه، وبعد 3 سنوات من مقال المجلة الأمريكية، بدأت الحقائق تتكشف وتظهر جليًة بالإجابة عن هذا السؤال بـ”لا” ،فمن ناحية السياسة الداخلية، كلما مر الوقت كلما زاد الأمر صعوبة في محاولة تعريف تركيا على أنها دولة علمانية ديمقراطية صديقة للغرب.
أما من ناحية السياسة الخارجية، وبخاصة الإقليمية، أصبح الربيع العربي خريفًا، حيث أضحت السفارة التركية في كلٍ من مصر وسوريا بدون سفير، كما أنه نتيجة للتطور الخطير في القضية السورية فإن المناطق الشمالية من سوريا، المتاخمة للحدود الجنوبية التركية أصبحت تحت سيطرة الجماعات المسلحة مثل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وحزب الإتحاد الديموقراطي (PYD) التابع لحزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا؛ بالإضافة إلى أن ما يُعرف بالجيش السوري الحر في سوريا، والذي انتشرت الادعاءات والأقاويل حول أن تركيا تدعمه، أصبح في طريقة للزوال والذوبان من الساحة السورية.
وقد أسفرت سخونة الأحداث التي تمر بها سوريا من صراعات دموية وحرب أهلية داخلية، عن نزوح ما يقرب من مليون لاجئ سوري إلى الأراضي التركية؛ لا يعلم أحد مصيرهم الغامض الذي يسوء يومًا بعد الأخر في ظل استمرار الوضع الحالي في سوريا، وما إذا كانوا سيعودون إلى ديارهم أم لا، على المدى البعيد.
ما أسباب فشل السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية تجاه مصر وسوريا؟ وللإجابة على هذا السؤال الذي يدور في أذهان الكثيرين، يتعين تناول القضية من حيث العلاقات الشخصية وعلى مستوى الدولة وعلى مستوى العلاقات الدولية.
فعلى المستوى الشخصي؛ يعتبر استخدام رجب طيب أردوغان للسياسة الخارجية على أنها أداةً للعبة السياسة الداخلية من أهم المشكلات التي تواجهها تركيا، فبدلًا عن الإعتماد على سياسات خارجية إستراتيجية طويلة المدى، فضَّل حزب العدالة والتنمية استخدام السياسة الخارجية كوسيلة لتحفيز الناخبين وإعطاء الزخم للعملية الانتخابية.
وعند النظر إلى سياسة رجب طيب أردوغان الخارجية تجاه سوريا خلال السنوات الثلاث الماضية، عقب إندلاع الثورة السورية التي كانت أول شرارة لها في 26 فبراير/ شباط عام 2011، نجد أن خطابات أردوغان الحماسية المشحونة بالتهديدات لنظام بشار الأسد لم تسفر عن أي نتائج فعلية على أرض الواقع سوى التصفيق الحار الذي كان يحصل عليه من أنصار الحزب.
لكن الواقع يتحدث عن نفسه، ففي شهر مايو/ آيار 2011 أطل علينا رئيس الوزراء أردوغان بخطابه الحماسي ليعلن أمام الرأي العام التركي وأمام العالم أن تركيا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام تكرار المذابح والمجازر التي تحدث في كلٍ من حماة وحمص.
وعند لقائي مع أحد الأصدقاء السوريين في قطر أوضح لي أن خطاب أردوغان هذا وعباراته الحماسية أوهمت اللاجئين السوريين بأن تركيا قد تتدخل عسكريا في سوريا إذا لزم الأمر لإنقاذهم، لكن بعد مرور الأيام والشهور واستمرار الصمت التركي تجاه ما حدث أصيب الجميع بخيبة أمل كبيرة.
ولم يختلف نهج أردوغان في تعامله مع الوضع المصري خلال الفترة الماضية عن نظيره على الجانب السوري؛ فقد اعتاد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أن يرفع أربعة أصابع عند التحية في تعبير رمزي عن دعمه لقضية رابعة العدوية بعد الأحداث التي شهدتها مصر في شهر يونيو/ حزيران من العام الماضي، كما صرّح خلال التصويت في الانتخابات المحلية الأخيرة التي أجريت في شهر مارس/ آذار الماضي، بأنه سيزداد قوة وعزيمة بروح الشهيدة أسماء البلتاجي ابنة الدكتور محمد البلتاجي، القيادي الإخواني المعروف؛ من الممكن أن تكون هذه العبارات زادت من حماس أنصاره وأنصار حزبه، لكن الواضح جليًا أنها لم تعد بفائدة على جماعة الإخوان المسلمين، كما قضت هذه العبارات على إحتمالات أن تتمكن تركيا من لعب دور الوسيط بين جماعة الإخوان المسلمين وقيادات الجيش في مصر.
وعلى مستوى الدولة التركية؛ فإن وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو كان يدّعي أن تركيا تكون نظاما قياديا، لكن من الواضح أن تركيا غير جاهزة لهذا سواء من الناحية السياسية أو من الناحية العسكرية.
ووفقًا للتقرير الصادر عن مؤسسة الدراسات الإستراتيجية الدولية الذي أعدّه الباحثان المتخصصان في شؤون الوطن العربي عثمان دينتشار ومصطفى قوطلاي؛ فإن تركيا عملت على زيادة عدد دبلوماسيها الذين يعرفون اللغة العربية، وارتفع عدد الدبلوماسيين الأتراك الذين يعرفون اللغة العربية في عام 2011 إلى 26، بعد أن كان 10 دبلوماسيين فقط في عام 1990، وفي عام 2012 أصبح عدد الدبلوماسيين الأتراك الذين يتحدثون اللغة العربية 6 فقط من 135 دبلوماسيا تركيا منتشرين في أكثر من 20 دولة من الدول العربية، ومازال من المبكر جدًا الحديث عن أن تركيا أصبحت قائدًا في المنطقة في ظل نقص دبلوماسييها المتخصصين في شؤون المنطقة.
وإذا عدنا إلى ملف القضية السورية؛ فإنه يتضح أن تركيا كانت أمام ثلاثة خيارات:
الخيار الأول: الوقوف إلى جانب حركات المقاومة السلمية، ودعم الفرق السياسية التي ترفض الإتجاه إلى العنف.
الخيار الثاني: دعم المعارضة المسلحة، والتدخل العسكري حال قيام النظام السوري بعمل مذابح ضد المعارضة.
الخيار الثالث: دعم المعارضة المسلحة والاعتماد على تدخل قوات حلف شمال الأطلسي (ناتو)، الذي تتمتع تركيا بعضويته.
لكن حكومة أردوغان لم تقف كثيرًا عند الخيار الأول الخاص بدعم المعارضة المدنية السلمية، ثم انتقلت إلى التصرف على نحو أن الخيار الثاني، المتعلق بدعم المعارضة المسلحة والتدخل العسكري، هو الأقرب إلى التحقيق، ولم تضع إستراتيجية بشأن إمكانية الانتقال إلى الخيار الثالث، المتعلق بالدعم العسكري للمقاومة المسلحة مع الإعتماد على إمكانية تدخل قوات الناتو، وكانت النتيجة أن ما يقرب من 160 ألف مواطن سوري راح ضحية عمليات القتال والصراعات الدائرة في سوريا، فقد وقفت تركيا موقف التفرج تجاه المذابح التي تجري في المدن السورية المختلفة، والتزمت الصمت ولم ترد جدِّيًا على التجاوزات السورية على الرغم من إسقاط النظام السوري طائرة حربية تركية كانت تقوم بدورية أمنية على الحدود الجنوبية التركية السورية، وسقوط ما يقرب من 51 شهيدًا في الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له مدينة الريحانية جنوب تركيا، والذي يُعتبر من أكثر العمليات الإرهابية دموية في تاريخ المدينة. بل والأكثر من ذلك؛ فإن تركيا لم تقم بأية عملية عسكرية ضد عمليات تهريب السلاح التي تتم بشكلٍ منظم من الجانب السوري إلى العناصر المسلحة التابعة لمنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابي، حتى أن تركيا طالبت من حلف شمال الأطلسي (ناتو) حماية حدودها الجنوبية إزاء تعرضها المستمر لهجمات صواريخ النظام السوري على المدن الحدودية الجنوبية؛ ومنذ ما يقرب من عام ونصف العام تتم حماية حدودنا الجنوبية من خلال نظام صواريخ باترويت الأمريكية والألمانية والهولندية.
وعند النظر إلى طبقة الذين كانوا يفكرون أن تركيا من الممكن أن تقوم بعملية عسكرية بمفردها عند إندلاع الصراعات السورية، نجد أنهم يستندون إلى الموقف الصارم الذي اتخذته تركيا عام 1998 ضد نظام حافظ الأسد.
ففي هذا العام اتخذت تركيا موقف صارمًا ضد الرئيس السوري في هذا الوقت “حافظ الأسد” محذرةً إياه بعمليات عسكرية ضده مطالبةً بوقف الدعم المقدّم لمنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابي وزعيمه الكردي عبدالله أوجلان، الذي تكفّل حافظ الأسد والد بشار الأسد حتى عام 1998 بمنحه حق اللجوء في دمشق، ليتم طرده بعد ذلك خارج سوريا بشكلٍ عاجل من قبل نظام الأسد، وقبول الشروط التي فرضتها الإدارة التركية في ذلك الوقت، وبعد إبعاد أوجلان بوقت قصير ألقت المخابرات التركية القبض عليه في كينيا بأفريقيا واختطفته إلى تركيا حيث حكم عليه بالسجن مدى الحياة.
ومن الواضح جليًا أن سوريا عززت موقعها الإستراتيجي في غرب البحر المتوسط، من خلال حصولها على دعم من بعض القوى الإقليمية مثل روسيا وإيران، وفي المقابل تراجعت مكانة تركيا في المنطقة جرّاء ضعف علاقاتها مع الحلفاء الغربيين.
كما أن حكومة رجب طيب أردوغان لم تقدم الدعم الكافي لحليفها الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، فقد كانت حزمة المساعدات، المقدرة بـ 2 مليار دولار، التي أعلنت عنها الحكومة التركية دعمًا للاقتصاد المصري، مهمة جدًا في هذه المرحلة؛ إلا إنها لم تكن كافية في مرحلة “عنق الزجاجة” التي كان يمر بها الإقتصاد المصري في ذلك الوقت.
وعلى الجانب الآخر، قامت المملكة العربية السعودية وعدد من دول الخليج العربي الداعمة للنظام العسكري في مصر بتقديم مبلغ 12 مليار دولار في صورة مساعدات ودعمٍ للنظام الحاكم بعد الإطاحة بمرسي.
وردًا على الانتقادات التي وجهت للحكومة التركية في ذلك الوقت، ادّعى وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو أن رئيس المخابرات الوطنية التركية “خاقان فيدان” كان قد قدم لنظام الرئيس مرسي مجموعة من الوصايا والإقتراحات، كما تم نشر قائمة الإقتراحات هذه على صفحات صحيفة”ستار” التركية الموالية للحكومة بتاريخ 23 أغسطس/ آب 2013. ومن المثير للدهشة أن من أهم النقاط التي أوصى بها رئيس جهاز المخابرات الوطنية التركية: خطوات تنشيط الحركة السياحية في مصر، وعمليات جمع القمامة، بالإضافة إلى تحديد إيران والولايات المتحدة كأولى الزيارات المقترحة ضمن الجولة الخارجية لمرسي.
وأخيرًا من ناحية العلاقات الدولية؛ فإنه من الواضح جليًا على الساحة الدولية أن السياسة الخارجية التركية تعرضت للطمة قوية في مواجهة التكتلات التي نشأت في المنطقة بزعامة كلٍ من إيران والمملكة العربية السعودية، ففي الجبهة الإيرانية يمكننا أن نجد أن التحالف الشيعي القوي بين إيران وحكومة المالكي المركزية بالعراق، وتنظيم حزب الله بلبنان، ساهم بشكلٍ كبير في دعم ومساندة نظام بشار الأسد في سوريا في مواجهة المعارضة.
وعلى الجانب الأخر، تظهر الممكلة العربية السعودية متزعمةً لتكتل كبير يتكون من عددٍ من دول الخليج العربي من بينها الإمارات العربية المتحدة، والكويت، والبحرين، بالإضافة إلى الأردن، وهو التكتل الذي دعم الإطاحة بمرسي.
وأصبحت تركيا الآن في عزلة بعد أن أوصدت كل أبواب المنطقة في وجهها، وعدم تواجدها في أيٍ من التحالفات في مواجهة التحالف الشيعي بقيادة الإدارة الإيرانية، والتحالف السعودي الداعم للسلطة الجديدة في مصر، فلم يتبق أمام تركيا خيارات أخرى للخروج من وحدتها وكسر عزلتها إلا عن طريق تقوية علاقاتها بالغرب.لكن حكومة أردوغان مترددة لا تحقق أي خطوات جدّية في هذا الملف، متبعةً سياسة المد والجزر، ففي الوقت الذي يبعث فيه وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو برسائل للغرب بأن مشكلات وقضايا منطقة الشرق الأوسط يجب أن تُحل داخل المنطقة، مشيرًا إلى أنه لا يُحبّذ تدخل الغرب في شؤون المنطقة، ينتقد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان حلف شمال الأطلسي(ناتو) لعدم التدخل لحل القضية السورية حتى الآن.
وللاطلاع على موقف أكثر تضاربًا للسياسة الخارجية التركية، يمكننا النظر إلى السياسة التي تتبعها الحكومة التركية تجاه ليبيا أثناء فترة ثورة 17 فبراير الليبية ضد نظام معمر القذافي، فلم يمر إلا وقت قليل على التصريحات التي كان يصيح بها أردوغان قائلًا: ” ماذا يفعل الناتو في ليبيا؟”، حتى شارك أردوغان نفسه في عمليات الناتو العسكرية ضد ليبيا.
وفيما يتعلق بالقضية السورية، لم تر الإدارة التركية أن المعارضة السلمية هي الحل للصراع المحتدم في سوريا، وفي الوقت نفسه لا تستطيع أن تدخل في عمليات عسكرية ضد نظام بشار الأسد بمفردها، ما أدى إلى اختيارها الخيار الثالث وهو الإعتماد على تدخل حلف الناتو لإنهاء الأزمة السوية، لكنها لم تتبع خطوات جدّية في هذا الطريق، كما أنها لم تبذل جهدًا كافيًا لوقف تدفق المقاتلين التابعين لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” وجبهة النصرة، الذين يتدفقون من الدول المختلفة إلى الأراضي السورية للمشاركة في الحرب، مستخدمين الأراضي التركية للعبور إلى الجانب السوري. ولم يكن هذا أمرًا إيجابيًا في مسار الملف السوري، إذ غيّر نظرة الرأي العام العالمي تجاه القضية السورية باعتبارها صراعا مع عناصر جهادية إرهابية، وأضعف موقف المعارضة المدنية المعتدلة، بالإضافة إلى أنه أضعف احتمالات تدخل حلف الناتو في القضية.
“جامعة ولاية سان دييجو – قسم العلوم السياسة”