بقلم: فاتح جيران
“الله لا يقبل الشرك، والدولة لا تقبل الشريك، وعلى الجميع أن يعي ذلك جيدًا”. وزير العدل التركي بكر بوزداغ – يناير / كانون الثاني 2014.
كان الشعب التركي قد اعتقد أنه تخلص من ثقافة السياسة الاستبدادية بعد جهود حثيثة استمرت لعشرات السنين، إلا أنه فوجئ بأن هذه الثقافة تعود إلى الحياة مجددًا من خلال “تركيا الجديدة” ،التي يطمح حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى إقامتها، وشهدنا حدوث عملية تناسخ لروح الوحش البحري الشهير” لوياثان” ،الذي ورد ذكره في كتاب العهد القديم، والذي يبدو أنه وجد لنفسه جسدًا أكثر ملائمة ينتقل إليه بعدما كان قد عاش في جسد آخر لسنوات طويلة.
لقد وصل حزب العدالة والتنمية إلى مكانه اليوم نتيجة عملية من التحول السياسي المثير، وإن إعراض الحزب عن أغلبية داعمي الفترة الأولى من حكمه في البلاد، يعتبر إحدى نتائج هذا التحول المثير، ففي تلك الفترة (2002 – 2007) لم يكن الحزب يشعر بأنه متمكن من الحكم ومقتدر، على الرغم من أنه كان في السلطة، وكانت الديمقراطية بالنسبة له ضرورة تفرضها عليه الواقع والظروف، ذلك أن منافسي الحزب داخل الدولة كانوا يمتلكون آلية التحكم في الجهاز البيروقراطي، ولم يكن الحزب يستطيع أن يفتح له مجالًا أمام تقدمه إلا من خلال الإجراءات الديمقراطية، إلا أن الحزب بدأ يسير في طريقه نحو التمكين بشكل تدريجي خلال ولايته الثانية في الحكم (2007 – 2011) ،وشيئًا فشيئًا أصبح الإسلام السياسي، الذي استمد خطابه من ثقافة المعارضة (معارضة النظام وأقطابه)، هو المسيطر على الحياة السياسية في تركيا، وانتقل إلى وضعية تمكنه من إعادة تنظيم الحياة الاجتماعية في البلاد.
أما في الولاية الثالثة التي بدأت عام 2011 فصار حزب العدالة والتنمية هو المتحكم في كل شيء من خلال خلفية عقلية كهذه، فسلبت الأجهزةُ، التي وجدها الحزب حاضرة أمامه، عقولَ كوادره، إذ بدأ يسير في تناغم فريد من نوعه مع أجهزة الدولة، التي أسسها التيار الكمالي الذي يعتبر عدوًا للإسلام السياسي صاحب العقلية المؤسِّسية، وكان الإسلاميون ينتظرون هذه اللحظة بفارغ الصبر منذ سنوات، فحينها سيخلصون وسيحرّرون أنفسهم من القيود المثبطة والقواعد الضابطة لهم، وسيحوّلون الدولة والمجتمع كما يحلو لهم، دون أن يحاسبهم أحد أو يستشيروا أحدًا، ولقد شمروا عن سواعدهم على الفور، وتم صهر الديمقراطية والقانون في عقلية كمالية جديدة، وأفرغت في قالب قديم:” تركيا الجديدة”.
ما إن نسمع مصطلح “تركيا الجديدة”، حتى يتبادر إلى أذهاننا احتمالان: الاحتمال الأول هو كيس منتجَ من أجل ملئه بالسياسات الاستبدادية والتعسفية، أي جوال قاتم لا يظهر ما بداخله، أما الاحتمال الثاني فهو تكتيك تسويق خطاب فارغ المحتوى، كما هو الحال بالنسبة لمفاوضات السلام الجارية مع حزب العمال الكردستاني، على أنه مشروع ضخم، أي بالون علاقات عامة، وكلا الاحتمالين وارد، ذلك أن كليهما مناسب لتقليد حزب العدالة والتنمية. هذا فضلًا عن أنه لا شك في أن الحزب سيحوّل، في كلتا الحالتين، هذه العملية إلى نوع من الحزب النفسية التي سيستغلها لتصفية منافسيه على الساحة.
صار مفهوم “تركيا الجديدة” يقدَّم في الآونة الأخيرة على أنه دعوة ورسالة حزب العدالة والتنمية، وبطبيعة الحال فإن الرئيس رجب طيب أردوغان هو زعيم هذه الدعوة، وأنا شخصيًا لا أعرف مضمون هذه “الدعوة” المبنية على البراجماتية بشكل مباشر، لكن ما أعرفه وما هو واضح وجليّ هو أن هذه الدعوة يجري تعريفها والترويج لها من خلال قائدها أردوغان، ولا يتمّ عقلنة الدعوة، وليست واضحة أو قابلة للقياس، بل صعبة الوصف، وتعتبر شيئًا غير متبلور. وهذا يقدم للزعيم إمكانية تعريفه بشكل مختلف في أزمنة مختلفة، وحتى إعادة تعريفه.
إن الذي سيوصلنا إلى تحقيق حلم “تركيا الجديدة” عبارة عن عملية ترميم، لكن ليس واضحًا ما هو الذي سنصلحه، وعلى أي أساس، ويعرّف معهد الأفكار الاستراتيجية التركي (SDE)، المعروف بتقارب أفكاره مع أفكار الحكومة بشكل كبير، عملية الترميم هذه في مجلة الأفكار الاستراتيجية التي يصدرها كالتالي: “أفق أردوغان، حلم داود أوغلو”. وعلى الرغم من أن أردوغان هو مهندس هذه الدعوة، فإننا نعرف أن داود أوغلو قدم مساهمات عقلية مهمة لهذه العملية بصفته منظِّراً.
إذن، تعالوا لنحاول فهم المرحلة التي وصلت إليها تركيا الجديدة من خلال الخطاب الشهير الذي ألقاه داود أوغلو في مدينة كونيا بتاريخ 6 سبتمبر/ أيلول الماضي. ونورد بعض المقتطفات من هذا الخطاب:
“إذا رأيتم فينا يومًا أي علامة على التكبر والعظمة جراء الأمانة التي نحملها على عاتقنا، وشعرتم أننا حِدْنا عن جادة الرحمة والشفقة وخصوصًا العدل، لا تتردوا في تذكيرنا بمولانا جلال الدين الرومي، ومقولة الشيخ أدب عالي التي قال فيها “احيِ الإنسان حتى تحيى الدولة”.
إن إشارة داود أوغلو إلى مشاعر الرحمة والشفقة التي تنتقل من القوي إلى الضعيف، تفيد بأنه لا يفهم منصبه من خلال الوظيفة والمسؤولية، بل من خلال القوة. وأما ما ينتظره من مخاطبه فهو تذكيره ببعض القيم، أي النصيحة. فالنقد لا يرد في خطاب داود أوغلو حتى بوصفه مجرد مفهوم. وأريد في هذا المقام أن أشير إلى عبارة قالها نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية ماهر أونال الذي أوضح أن الهدف الأساسي للحكومة الجديدة هو “الاقتصاد القوي، الدفاع القوي، الإرادة السياسية القوية”. ولم يشر أونال في كلامه إلى أي مبدأ أو قيمة سياسية (من قبيل الديمقراطية والحقوق والحريات الأساسية)، وهو ما يدلل على أن عقلية الحزب الحاكم في تركيا مبنية بالكامل على مبدأ القوة.
“وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى حاجي بيرام ولي، ثم قدمت برنامج الحكومة وتفاوضت حوله، وبعدها غادرت إلى إسطنبول لأصلي هناك صلاة الفجر في جامع أبي أيوب الأنصاري، وشعرت حينها مرة ثانية بحجم المسؤولية الكبيرة التي أحملها على عاتقي، كما شعرت بها قبل ذلك في حضرة مولانا جلال الدين الرومي”.
بيد أن المواطن هو الشخصية التي يجب أن يشعر السياسي أمامها بالمسؤولية وأن يحاسبه، كما هو الحال في الدول الديمقراطية، وليس الشخصيات التاريخية، وإن كانت تتمتع بأهمية كبيرة. وأما شعور داود أوغلو بالمسؤولية أمام أشخاص لن يستطيعوا مراقبته في الواقع، فيمكن ربطه بذكائه الذي يظهر من جديد في كل ابتسامة يبتسمها.
“تستند الدولة أو استخدام قوة الدولة إلى قيمتين أو قوتين أساسيتين: إحداهما القدرة، والأخرى الشفقة”.
أود أن أذكّرك سيدي رئيس الوزراء بأن هناك القانون أيضًا الذي هو عبارة عن نصوص تملي عليكم كيفية استخدام تلك السلطة التي حصلتم عليها من الشعب، غير أن ترجيح داود أوغلو لمصطلح الشفقة له أسباب بكل تأكيد: فالشفقة هي شعور يجعلكم تعطون عندما تريدون، وعندما تعطون يكون من يحظون بها مدينين لكم. ويكون زمام المبادرة دومًا بين أيديكم، كما أنه ليس هناك أي نص يربط هذا المصطلح بأساسات واضحة تعرّفه. نشكركم على شفقتكم، لكننا نريد القانون.
“يمكن أن ننتقد بعضنا البعض وننظر إلى سياساتنا من زوايا مختلفة، إلا أنه لا خلاف في أن الأهداف التي وضعها حزب العدالة والتنمية لتحقيقها بحلول الذكرى المئوية لقيام الجمهورية عام 2023 تعتبر عودة لأمتنا إلى مسرح التاريخ بعظمة وفخر ووقار… وكما لم يكتفِ الأستاذ بالوقوف وقال “قفوا أيها الجماهير!”، نقول “قفوا أيها الإداريون، أيتها القوى العالمية، أيتها القوى الكبرى!”، إن هذا الإنسان يحتاج إلى العدل. فهناك دولة تقود عصراً جديداً في مواجهة هذا الظلم والإجحاف”.
أما هذه الكلمات فتوضح لنا كيف أن السياسة الخارجية التركية، التي وصلت إلى حد كارثي، تُدار من خلال خلفية عقلية كهذه. المثير في هذه المسألة أن “الدور التاريخي” الملقى على عاتق تركيا ليس له علاقة من قريب أو من بعيد بقدرات الدولة الحالية، أضف إلى ذلك أن الإحجام عن استشارة أي طرف يفكر بشكل مختلف عن الحكومة لهو انعكاس واضح لهذه العقلية التي يفكر بها الحزب الحاكم. فهل رؤية تركيا في مجال السياسة الخارجية هي أن تكون دولة “مفسدة للمخططات” بدلًا من أن تكون “صانعة للمخططات” في مواجهة القوى العالمية؟ لا يا سيدي رئيس الوزراء! هذا فضلًا عن أنكم تحتاجون إلى وسائل أكثر تعقيدًا؛ إذ لا يمكن بناء سياسة خارجية من خلال الأشعار.
“إن شاء الله لن يضطر أي رئيس للوزراء في تركيا بعد الآن أن يحاسَب أمام أي محكمة، مهما كلّف الأمر. وأما الجهة المنوط بها محاكمته فهي الشعب الذي جاء به إلى السلطة، وكذلك الطمأنينة الإلهية”.
وللأسف أنت ترتكب خطأ فادحًا مرة أخرى سيدي رئيس الوزراء؛ إذ أن دستور تركيا الحالي يعطي الصلاحية للمحكمة الدستورية لمحاكمة رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، بصفتها المحكمة الأعلى في البلاد. أوليس يجب على شخص يقود بلداً كتركيا أن تكون لديه معرفة عن المفاهيم القانونية، حتى وإن لم يكن هو الزعيم الآمر الناهي؟
“سننشئ الثقافة والحضارة والاقتصاد والاعتبار الدولي”.
لا أعرف بالضبط استنادًا إلى أي وسائل سينجز السيد داود أوغلو هذه المهمة، غير أنه من المعروف أن الدولة ليست هي الجهة المنوط بها إنشاء الثقافة والحضارة في الدول الديمقراطية. أضف إلى ذلك أن مصطلح الحضارة يمتلك مقياسًا يمتد إلى ما وراء بناء الأمة – الدولة. ومن الواضح أن السيد داود أوغلو إما يريد أن يقوم بعملية الإنشاء هذه بأيدي الدولة بشكل مباشر، وهذا سيفضي بدوره إلى ظهور أشخاص مرائين كأول نتاج لهذه العملية، أو أنه يخطط أن ينجز هذه المهمة بواسطة مبادرة شبه مدنية من خلال منظمات المجتمع المدني التي أُنشئت وتلقت الدعم من قِبل الحكومة، كما يفعلون ذلك منذ وقت طويل. وفي هذه الحالة لن تكون هناك منافسة عادية في المجال المدني، وحينها ستختفي العناصر المدنية حقًا، وستتصرف مؤسسات المجتمع المدني المدعومة من جانب الحكومة بصفتها “امتدادًا للإرادة السياسية”. وفي نهاية المطاف سيتعرض المجال المدني لـ”احتلال” الدولة.
أرى من جانبي أن انتقال منصب رئيس الوزراء من أردوغان إلى داود أوغلو يعتبر عملية انتقال من زعيم براجماتي للغاية في المسائل السياسية، يتصرف بشكل دولتيٍّ أو مدني حسب الحاجة، ويتقلب بين الديمقراطية والاستبداد عند اللزوم، إلى زعيم دولتي واستبدادي مباشر من حيث العقلية التي يفكر بها. وفضلًا عن كون خطاب داود أوغلو ينمّ عن شخصية شفافة تحاسَب أمام الشعب، فإنه يذكّرنا بشخصية حاكم ملكي يعيش في العصور الوسطى.
صحيفة” زمان” التركية
1/10/2014