ليفنت كوكير
نعم، أخرِجوا كذلك العبارة التي أضفتموها عام 2004 إلى المادة 90 من الدستور التركي، دون تردد، ذلك لأن ما يظهر عيانًا بيانًا أمامنا هو أن هناك مساعي لبعث مفهوم مرتبط بـ”دولة الأمن القومي” ،أقدم مفهوم للدولة التركية، من قبره، كما لو أنه تكذيب لعشرات الصيحات التي ارتفعت بدعوى “تركيا الجديدة”. وأود، في البداية، أن أطرح هذه الاستنتاجات لدعم تشخيصي هذا:
أولًا: يلجأ السياسيون الذين يحكمون تركيا، لا سيما في العامين أو الثلاثة أعوام الأخيرة، إلى مصطلح” الخيانة”، بشكل متزايد، للرد على انتقادات معارضيهم، وعندما يكون الأمر كذلك، نشهد فتح الطريق أمام إضفاء الصبغة الشرعية على المبادرات التي يتمخض عنها تكميم أفواه المعارضة وقمعها بمنطق “منع الخيانة ومعاقبة الخائنين”، وعليه، بينما تسير الأمور في معاقبة المتهمين في أية دولة قانون بطريقة طبيعية، وتتطلب عملية محاكمة عادلة، يمكن الحديث في تركيا، على سبيل المثال، عن “محاكمة الإرهابيين المقتولين”.
أما النقطة الثانية: فتتعلق بالتعليقات التي طرحها الرأي العام بشأن تحول التظاهرات الاحتجاجية المناوئة لموقف الحكومة التركية إزاء ما يحدث في مدينة كوباني (عين العرب) السورية، إلى أحداث شغب وعنف، ونرى هنا أن خطأ يتكرر مرة ثانية بعدما لاحظناه منذ أحداث متنزه جيزي بارك بإسطنبول. ويكمن هذا الخطأ، منذ البداية، في عدم التفريق بين “التظاهرات السلمية غير المسلحة” و”أعمال الشغب والعنف”، كما يرد في المادة رقم 34 من الدستور التركي، بيد أن تنظيم “التظاهرات السلمية غير المسلحة” دون الحصول على إذن مسبق من السلطات، هي حق معترَف به في الدستور التركي، كما يرد في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، فضلًا عن كونها مبدأ راسخ في اجتهادات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. والتعامل الصحيح على هذا الأساس كان لحماية حق “التظاهر السلمي غير المسلح” برعاية الدستور التركي والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، واستخدام قوات الشرطة جميع صلاحياتهم القانونية في التعامل مع أعمال العنف والشغب مع أحداث الشغب التي شهدتها الاحتجاجات التي نُظمت في مدن تركية عديدة احتجاجًا على ما يحدث في كوباني.
وأود، في هذا المقام، أن أؤكد أن محاولات إقرار لائحة قانونية جديدة موجَّهة لتمكين قوات الشرطة تطبيق تدابير أكثر ردعًا، وهو ما أطلق عليه” النموذج الألماني”، ستكون خطأ فادحًا بمعنى الكلمة، من المسائل التي يجب على الحكومة التركية وداعميها من أنصار حزب العدالة والتنمية أن يفهموها، هي أن التدخل عن طريق “استخدام القوة المفرطة” لقوات الأمن ضد التظاهرات التي بدأت بشكل سلمي غير عدواني وبدون استخدام السلاح، وفقا لتقارير المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، لعب دورًا محوريًا في ظهور عنصر العنف والشدة في التظاهرات الاحتجاجية المجتمعية في تركيا.
وأعود وأؤكد أن التظاهرات المجتمعية التي تتضمن العنف لا يمكن أن تستفيد من أية حماية قانونية، بما في ذلك الدستور والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وأما ما نتحدث بشأنه هنا هو تحول التظاهرات المعارضة السلمية، إلى العنف نتيجة استخدام القوة المفرطة ضدها، وكانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قد شددت على هذه النقطة الدقيقة في العديد من القرارات التي اتخذتها ضد تركيا.
وباختصار، فإن ما تحتاج إليه تركيا ليس تخويل قوات الأمن المزيد من الصلاحيات، بل توجيه هذه القوات إلى تطبيق ما يرد في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وقد جرى تحديد الأسس التي يجب اتباعها من قِبل “النموذج الألماني” وسائر الدول الأعضاء في المجلس الأوروبي، بالتوازي مع الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، هذا فضلًا عن أن تركيا لو أرادت اتخاذ ألمانيا كنموذج يحتذى به في هذا الإطار، يجب أن تمر هذه العملية عبر الموافقة على ضرورة تحرّك قوات الأمن بهدف توفير الأمن للمتظاهرين في التظاهرات السلمية (مثل الحيلولة دون وقوع أعمال عنف تقوم بها بعض الفئات المختلفة ضد المتظاهرين السلميين).
ويجب أن نشدد، في إطار هذه النقطة بالتحديد، على أن قوات الأمن في تركيا لها سجل غير مشرِّف من حيث الإجراءات المتعلقة بحقوق الإنسان، وكانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قد أصدرت قرارا في العديد من المرات، في اجتهادها الخاص بتركيا، بأن أحدًا لم يحقق في التصرفات التي أقدمت عليها قوات الأمن، والتي من شأنها الإخلال بحقوق الإنسان، إضافة إلى عدم معاقبة الموظفين الحكوميين الذين أخلّوا بهذه الحقوق.
إن نظام “الحصانة” أو “عدم المعاقبة”، الذي يطلق عليه (Impunity) في اللغة الإنجليزية، يعتبر نظامًا متبعًا بشكل منهجي في تركيا حسب ما ترى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وهل هذه النقطة سارية المفعول كذلك بالنسبة للإجراءات التي ظهرت خلال “مقاومة جيزي بارك”، وأفضت إلى مقتل وإصابة العديد من المواطنين الأتراك؟ لا أظن أن علينا الانتظار كثيرًا لتلقّي إجابة على هذا السؤال. وبالتالي، فإن اتجاه الحكومة التركية ونواب حزب العدالة والتنمية في البرلمان، من خلال قرار سريع، إلى إقرار تعديلات قانونية جديدة تسمح بإمكانية تصرف قوات الأمن بطريقة أكثر تعسفية وعنفًا من خلال استغلال مسألة “الإفلات من العقوبة” قدر الإمكان في دولة تتربع على قائمة أكثر البلدان إخلالًا بحقوق الإنسان، كل هذا يعني أنه يجب علينا أن نستعد لنقول وداعا لمبدأ “دولة القانون التي تحترم حقوق الإنسان” بالكلية.
وصلت تركيا، في العديد من فتراتها خلال تاريخها الجمهوري إلى نقطة المفاضلة بين الحريات والنظام الأمني، وركّزت قواها دومًا على مفهوم “الأمن القومي”المرتبط بمبادئها الأساسية في فلسفة تأسيس الجمهورية، ومن المحزن والمؤلم أن نرى إشارات العودة إلى الوراء من جديد بعد هذا القدر من الإصلاحات من أجل ترسيخ الديمقراطية.
وبطبيعة الحال، فإن إمكانية تعويض خسائر هذه الوضعية الحزينة، متاحة في الوقت الحالي. وإن المادة 90 من الدستور التركي تقف كحجر عثرة كبير أمام تقوية وضعية عدم احترام لحقوق الإنسان الموجود في تركيا منذ الماضي ولا يزال يستمر اليوم استنادًا إلى حجج أمنية، وكانت جملة أخيرة قد أضيفت إلى هذه المادة بتعديلات دستورية أدخلت عام 2004 بقيادة حزب العدالة والتنمية، وبالرغم من ذلك، فإن الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تتناول الحقوق والحريات الأساسية سارية المفعول بشكل يتناسب مع طريقتها الخاصة، وإنها تسمو على قوانين أي دولة خاصة بها، وإذا جسدنا هذه النقطة على أرض الواقع، فإن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان تحمل قيمة معيارية أعلى من اللوائح الداخلية المتعلقة بحق الاجتماع والتظاهر، وإن سمو الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان على هذا النحو هو بموجب عضوية تركيا في المجلس الأوروبي، وليس فقط بموجب الدستور، وفي هذه الحالة أود أن أوضح أن أي قانون يصدر بناءً على مقترح من نواب حزب العدالة والتنمية في البرلمان سيكون مخالفًا للدستور التركي والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، بغض النظر عن الصلاحيات والسلطات التي سيمنحها لقوات الأمن، والتي لا تتسق مع مواد الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
إن ندائي موجه للأغلبية بالبرلمان التركي، إذا لم تُصدروا التحذيرات اللازمة لكي تستخدم قوات الأمن صلاحياتها الحالية لتحقيق الأمن الداخلي في تركيا بالتوازي مع مواد الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وإذا أردتم إصدار تعديل جديد يزيد من مستوى انتهاك حقوق الإنسان، إذن الغوا الجملة الأخيرة من المادة التسعين من الدستور لتكونوا قد أكملتم هذه الوتيرة، وبكل تأكيد ما سيحدث بعد ذلك هو إنهاء عضوية تركيا في المجلس الأوروبي، لكن إذا لم تريدوا فعل ذلك، وإذا كان تصريح وزير شؤون الاتحاد الأوروبي التركي عندما قال “سنتخذ أوروبا كمرجعية لنا” صحيحًا، فعليكم التوجه لاتخاذ التدابير الصارمة والمؤثرة اللازمة لتجعل قوات الأمن تتصرف بطريقة أكثر إنسانية وتحترم معايير حقوق الإنسان في التعامل مع التظاهرات السلمية.