بقلم: أحمد كوروجان
تناولت المصادر التقليدية في التاريخ السياسي الإسلامي مسألة معارضة النظام الحاكم تحت ثلاثة عناوين رئيسة: الصبر، الخروج والتمكين.
فأما الصبر فهو الطريقة التي شهدناها على مر التاريخ الإسلامي والتي تستند فكرتها الأساسية إلى المبدأ التالي: “لا يمكن التمرد على الحاكم أو السلطان بل تجب طاعته حتى وإن كان ظالماً. أرضى وأُفضِّل أن أعيش 60 عامًا تحت حكم سلطان ظالم على أن أعيش يومًا واحدًا بدون سلطان. فإذا كان الإمام عادلًا فهو مأجور على ذلك ويقع علينا الشكر، وإذا كان ظالماً فعليه ظلمه وعلينا الصبر”.
وبحسب هذه العقلية التي يسيطر عليها المفهوم القدري فإن “الله هو الفاعل المختار. ولا شك في أن أفعاله كلها خير. وما يقع على العباد هو الانزواء لمشاهدة أفعاله وإجراءاته سبحانه وتعالى بإعجاب، والصبر دون فعل أي شيئ مهما حدث لهم وإلا فيكون العباد قد اعترضوا على قدر الله. هذا فضلًا عن أن التصرفات والمواقف المعارضة التي سيظهرونها إزاء ممارسات السلطان ستتسبب في نشر الفتنة في المجتمع، وتضر بشرعية الحاكم، وتزداد سرعة وتيرة انتشار الفساد والفوضى لتصبح الحياة غير قابلة للعيش”.
والجملة التالية تلخّص هذه العقلية: “لا شك في أن السلطان العادل أفضل من السلطان الجائر، غير أن الأمير الظالم والطاغية خير من أن تستمر الفتن”.
أما الخروج فهو التمرد ومحاولة خلع الحاكم بالقوة؛ إذ إن الناس ليسوا مجبرين على قبول كل قرار يصدره السلطان ودعم كل إجراء يقوم به. كما أنه ينبغي لهم رفع أصواتهم للاعتراض على القرارات والإجراءات الخاطئة، والإعراب عن اعتراضهم في الحدود المعقولة، كما يجب عليهم أن يتمردوا بالكلية عند الضرورة على السلطان وإدارته، ويقوموا بثورة ضده، وينهون حكمه.
الاعتدال في المعارضة الاجتماعية
وإذا انتقلنا إلى الحديث عن التمكين، فهو محاولة الاعتراض بشكل مناسب على قرارات وإجراءات الحاكم التي يعتقَد أنها خاطئة، والسعي لإلزامه بمبادئ وأسس الإدارة المشروعة دون التمرد عليه أو التسبب في حدوث حالة من الفوضى الاجتماعية.
وإذا كانت هذه المساعي لاتسفر عن أية نتيجة، فيجري الانتقال إلى مرحلة دعم التشكيلات والتكوينات البديلة مع الالتزام بعدم التمرد وإحداث مشاكل أمنية والمحافظة على الهدوء الاجتماعي. ولاريب في أن الموقف الذي اتخذه الإمام الأعظم أبو حنيفة لمواجهة الظلم الذي كان موجودًا إبان العهد الأموي يعتبر أبرز مثال يمكن أن نقدّمه على مبدأ التمكين.
هذه المفاهيم التي حاولنا تلخيصها بجملة أو جملتين والتي طُرحت في حقب زمنية وأماكن محددة خلال التاريخ الإسلامي، تعرّضنا لها في إطار تقييمنا لها، لكننا لسنا مضطرين إلى استخدام المفاهيم ذاتها لتصوير وتقييم واقعنا اليوم. ذلك أننا وإن كنا نتبنى العقيدة نفسها، فإن الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية اليوم مختلفة تمام الاختلاف عن تلك التي كانت في الماضي. ولهذا السبب، لايمكن أن نفهم حاضرنا من خلال مفاهيم الماضي، كما لن يكون بإمكاننا تثمين أوضاعنا وبناء مستقبلنا.
ولذلك يجب الخروج عن الإطار المذكور أعلاه ليس فقط من أجل محاولة فهم أو وضع اسمٍ لعداوة حزب العدالة والتنمية تجاه حركة الخدمة، التي كنا نزعم أنها ظهرت مع اندلاع أزمة مراكز مراكز فصول التقوية الخاصة، لكن رأينا على ضوء المعلومات والوثائق المنتشرة منذ عام أن جذورها تعود إلى زمن بعيد، وإنما من أجل فهم ووضع اسم للموقف المعارض الذي بدأت تبديه حركة الخدمة إزاء السلطة في الآونة الأخيرة أيضاً.
إن الذي قيل حتى اليوم لتوضيح الوضع الحالي يدل على عدم تحرّي الدقة والانتباه في هذه القضية إلى حد كبير. فأولئك الذين يقفون في صف الحكومة يحاولون توضيح الموقف المعارض لحركة الخدمة بمفاهيم الصبر حينًا والخروج حينًا والتمكين حينًا آخر، انطلاقاً من الحوادث والنماذج التي اعتمدوها. والعبارات المتداولة لديهم من قبيلِ “طاعة أولي الأمر، إشعال نيران الفتن، التمرد على السلطة الشرعية، الانقلاب على الحكومة وغير ذلك” دليل صحة ما نقول.
وليس غرض المختبئين وراء هذه العبارات هو السعي للبحث عن الحق وتسمية كل شيئ بمسماه الحقيقي وتحديد الواقع كما هو في نفس الأمر. بل على العكس، فإنه يبدو أن الهدف الرئيس هو التلاعب بالناخبين المسلمين الذين لا يعتبرون غرباء على مثل هذه العبارات والمفاهيم وضمان استمرار دعمهم.
أما على الوجه الآخر من العملة فنجد المفاهيم التي تعكس التجربة السياسية الغربية. وكما أوضحت في مقالي الذي حمل عنوان “العصيان المدني أم المقاومة السلبية؟”، فليس من الصواب كذلك أن نحاول تفسير هذه الوتيرة من خلال المفاهيم المنتَجة في العالم الغربي والمستخدمة في العلوم الاجتماعية. وما يجب علينا فعله هو أن نجد مرتبة وسطية بين هذين الاتجاهين، والتركيز على ظروف اليوم وإنتاج مفاهيم جديدة مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف ظروف الخلفيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والتصدي لاستغلال السياسة للدين وتحويله إلى أداة للمحافظة على السلطة وتعريف الحكومة نفسها بأنها حكومة محافظة متديّنة وتشكيل الطبقة المتديّنة معظم قاعدتها الشعبية.
وبحسب ما أتابعه فإن الكاتب الصحفي بجريدة زمان علي بولاج هو أفضل من رصد هذا الموضوع من خلال مصطلح “المعارضة الاجتماعية”.
المعارضة هي ضمانة النظام
وبحسب تقييم علي بولاج، فإن المعارضة الاجتماعية تعتبر نوعًا من أنواع المعارضة التي لا تحضّ على العنف ولا تحتوي على مضامين سياسية وتظهر رد فعلٍ ضمن الحدود الدنيا مركزة على المواضيع لا الأشخاص وتكون لها مطالب ملموسة.
أجل إن المعارضة الاجتماعية هي اسم يطلق على نوع المعارضة الذي يواجه الميول الاستبدادية للسلطة الحاكمة التي تسعى للقضاء على مبدأ الفصل بين السلطات، وتختزل التعددية في الكثرة، وتُقْدِم على ممارسات من شأنها القضاء على كل شعور أو فكر أو شخص أو جماعة معارِضة، والأهم من ذلك يواجه المنطق الذي يرى الديمقراطية عبارة عن صناديق الاقتراع فيدعو كل فكرة مخالفة لخوض السلك السياسي.
ومثلما أوضح بولاج، فإن هذا النوع من المعارضة لا يدعم العنف، كما أنه ليس بمعارض حادٍّ للسلطة الحاكمة. وهو لا يعارض النظام القائم بصورة عامة، وكذلك لا يعتبر كل شيئ يفعله الحزب الحاكم خطأ. بل على العكس، فإن من يتبنون هذا النوع من المعارضة يكتفون بالإشارة إلى النتائج الواقعة والمحتملة لسياسات خاطئة بحسب رأيهم، أو بالأحرى يقدّمون ما يرونه الأصحّ إلى السلطة كعرض، ويفضّلون الأساليب والطرق التي توصِل أصواتهم بصورة أكثر فعالاً إلى الرأي العام في تركيا وسائر دول العالم في مواجهة الموقف المتزمّت الذي تتخذه الحكومة في سياساتها.
إن هذه المقاربة التي تشير إلى ذروة الوعي الديمقراطي وشعور المسؤولية الملقاة على عاتق كل مواطن تعتبر في الحقيقة نموذجًا من نماذج التصرف التي يجب مقابلتها بتقدير وعرفان. فهي مقاربة تهدف لتذكير الرؤساء من خلال المرؤوسين بالمصلحة العامة التي تعتبر مصلحة الأمة في نظر الإسلام، وتسعى لأداء حقّ كونها مؤسسةَ مجتمعٍ مدني وليست مؤسسةَ دولةٍ مدنيةً. وتعدُّ في الوقت نفسه تجسيداً وتفعيلاً للمعارضة التي تعتبر من أهم العناصر المادية التي تَحُول دون إفساد قوة السلطة للأفراد والمؤسسات، وتساعدها في سعيها للحفاظ على حقوقها.
وفي هذا السياق شهدنا أن حركة الخدمة عارضت بعض السياسات التي اعتبرتها مخالفة للمصلحة العامة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية المستمر منذ أكثر من 12 عامًا، وذلك حتى قبل بدء النقاش حول مسألة إغلاق مراكز فصول التقوية الخاصة.
وأولى نماذج هذه القضية التي تتبادر إلى أذهاننا نذكر على سبيل المثال مشروع قانون مكافحة الإرهاب وقانون الطاقة وواقعة الهجوم على سفينة مافي مرمرة.
وكما ترون فإن هذه المسائل بعيدة كل البعد عن ادعاء إدارة الدولة ومعارضة سياسات الحكومة بصورة كلية، بل إنها مسائل اجتماعية تهم مصلحة الشعب والبلد في المقام الأول.
وفي النهاية أود أن أقول إن المعارضة تعتبر ضمانة النظام في الأنظمة السياسية الديمقراطية، وهي أكبر عائق أمام تسبب القوة والسلطة في إفساد الحكومة. ونوع المعارضة بشقيها السياسية والاجتماعية ليس مهماً للغاية شريطة ألا تحضّ على العنف وتكون في إطار الحدود القانونية.
وما يقع على عاتق السلطة الحاكمة في هذا المقام ليس محاولة القضاء على المعارضة، بل تشكيل الأرضية القانونية والاجتماعية اللازمة من أجل أن تمارس المعارضة فعالياتها بصورة أكثر صحة. ولكن ما يحدث في تركيا هو تقويض أرضية المعارضة بالكليّة.
إذا استعرضنا التاريخ السياسي القريب والبعيد نجد أن القضاء على الأرضية القانونية والاجتماعية للمعارضة دفع الناس إلى أنشطة غير مشروعة، ثم وقع تدهور وانهيارات اجتماعية بعد مدة معينة. وبطبيعة الحال كانت الدولة هي الخاسر في نهاية المطاف.