أكرم دومانلي
يحكم تركيا حاليًا رئيسا وزراء رجب طيب أردوغان وأحمد داودأوغلو وهما يديران شؤون الحكومة معًا.
وبالأحرى فإن الشخص الذي يتولّى منصب رئاسة الجمهورية في تركيا لم تزل قدماه تطآن كرسي رئاسة الوزراء، كما أنه لا يترك منصبه كرئيس عام لحزب العدالة والتنمية. أي أن رئيس الجمهورية لا يتورّع عن التصرف وكأنه رئيس حزب سياسي، وهو بذلك يتسبب في تعقيد إدارة شؤون الدولة. وهذه الوضعية ليست قانونية، فالدستور واضح وجلي. حيث إن الدستور الحالي الذي لا يرضى به أحد وكان السيد أردوغان قد وعد بتغييره لكنه الآن يبذل ما بوسعه لاستغلال كل شاردة وواردة لإبقائه سارياً في البلاد، ينصّ على وجوب أن يقطع مَن ينتخَب رئيسًا للجمهورية كل صلاته وعلاقاته بحزبه السياسي. فهل الصورة التي نشهدها اليوم في تركيا كما ينص عليه الدستور؟ بالتأكيد لا! فرجب طيب أردوغان يضرب بالدستور عرض الحائط بشكل رسمي، ويواصل ترأسه للوزراء وحزب العدالة والتنمية، بالرغم من يمينه الذي أدّاه متعهدًا بأن يكون محايدًا تجاه جميع المواطنين…
حسنًا، لو لم ينتخَب السيد أردوغان رئيسًا للجمهورية أو حتى لم يترشح لهذا المنصب أصلاً وواصل تولي منصب رئيس الوزراء وأصبح واحد غيرُه رئيسًا للجمهورية، فهل كان سيرضى بأن تسلَب منه صلاحياته؟ هذا مستحيل.
كان أردوغان قد انتقد سلفه عبد الله جول أمام الجميع وذكّره بمبدأ الفصل بين السلطات عندما اتصل بأحد الولاة خلال أحداث متنزه جيزي بارك. أما الآن فهو يستدعي الولاة إلى القصر الأبيض الجديد، ويصدر إليهم التعليمات السياسية، كما أنه يهتم بنفسه بكل شؤون الدولة وحزب العدالة والتنمية، بدءًا من صناديق الانتخابات، وحتى القوانين الخاصة بالأمن الداخلي الموصوفة بأنها دلالة على الفاشية في “تركيا الجديدة”، والتي أكد أنهم لن يتنازلوا عن تطبيقها أبدًا. فهذا التناقض لا يمكن توضيحه وفق أي منطق!
انتهاك الدستور بصورة علنية
هل يجوز – بالله عليكم – لرئيس الجمهورية أن يخرج في الميادين ويطالب أنصار الحزب الحاكم بالتصويت من أجل الفوز بـ400 مقعد بالبرلمان ويدخل في سجال مع قادة المعارضة وما إلى ذلك! فالدستور والقوانين واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار؛ إذ تنص على وجوب حيادية رئيس الجمهورية في تركيا، وإلا فيكون قد انتهك القوانين، وقلب نظام الحكم البرلماني رأسًا على عقب. بل إنه يكون قد ارتكب جريمة يعاقب عليها القانون.
ثمة طرف موجع في هذه المسألة: جميع صلاحيات داود أوغلو في يد أردوغان، لكن داود أوغلو هو من يتحمل المسؤولية الكاملة وفق الدستور والقانون. ماذا يعني هذا؟ يعني أنه في الوقت الذي يفعل أردوغان كل ما يحلو له ويتصرف كأنه رئيس الوزراء، فإن مَن يدفع فاتورة هذه التصرفات هو داود أوغلو وفريقه المعاون.
الجميع يعرف أن هناك ردود أفعال ترتفع أصواتها من شتى دول العالم على الانحراف عن المسار الديمقراطي في أنقرة. فرئيس الوزراء داود أوغلو كان يتصف بكل صفات الاحترام والتقدير في الأوساط الأكاديمية وعالم السياسة، إلا أنه الآن يتعرض للضرر السياسي وتغتصب صلاحياته فعليًّا.
السياسة التركية محرومة من الحَكَم
إن الهدف الذي يطمح لتحقيقه الرئيس أردوغان من وراء اتهاماته الثقيلة الموجَّهة إلى البنك المركزي واضح وصريح، ألا وهو إجبار رئيس البنك أردم باشتشي على الاستقالة. بيد أن هذا الموضوع لا يدخل ضمن نطاق صلاحيات رئيس الجمهورية؛ إذ إن هناك كوادر محدَّدة مسؤولة عن إدارة الاقتصاد، بدءًا من المؤسسات البيروقراطية وانتهاءً بالجهات السياسية. ويفترَض ألا تكون هناك علاقة بين الضغط على المؤسسات المستقلة ورئاسة الجمهورية. غير أن أردوغان لا يستطيع السيطرة على نفسه، ويتدخل في كل قضايا الوطن من خلال تصريحات عصبية، حتى أنه يتهم رئيس البنك المركزي بخدمة قوى أخرى. وفي الواقع، فلا إنصاف في هذه الاتهامات.
لقد عمد أردوغان أيضاً إلى توجيه الاتهامات الثقيلة إلى الرئيس السابق للمخابرات التركية خاقان فيدان الذي كان ينعته حتى وقت قريب بـ”خزانة أسراره”، وقال في حقه: “ربما يكون قد وُعد ببعض الأشياء”. ومن الواضح أن كل مَن يفعل أي شيئ يخالف هوى أردوغان في هذه الدنيا الفانية يواجه أقسى الاتهامات.
نحن أمام مشهد واضح: ظل أردوغان يسقط على كل شيئ، وللأسف فإن هذا الظل يجرّ البلاد إلى حالة من الفوضى التي لا يمكن الحيلولة دون وقوعها. وللأسف فإن هذه الأجواء الملوثة تصيب أكثر ما تصيب حزب العدالة والتنمية بضيق التنفس. ولم تكن رئاسةُ الوزراء أو الوزارةُ أو العضويةُ البرلمانية عديمةَ القيمة إلى هذه الدرجة في أي وقت مضى.
لاشك في أن نصيب وسائل الإعلام المؤيدة للحكومة كبير جدًا في هذه المسألة، فما إن يظهر رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو في مشهد ناجح إلا تبادر وسائل الإعلام التابعة للقصر الرئاسي إلى أن تعرّفه هو وفريقَه بحدوده التي يجب أن يتوقف عندها. وكانوا قد فعلوا الشيئ نفسه مع الرئيس السابق عبد الله جول. ربما يقول البعض “أنا راض وأبوها راض فما دخّلك أنت يا قاض؟”. لكنني أقول بصراحة ليس همّي منصبًّا على انهيار مكانة الشخصيات بل همّي هو أن الأحجار الأساسية للديمقراطية في تركيا قد سُويت بالأرض. وإذا انقلبت الأمور رأسًا على عقب، تصبح الأزمات السياسية لا مفر منها، ولن يكون بالإمكان إعادة إقامة التوازنات من جديد. ذلك هو الهمّ الذي يؤرقنا…
نحن أمام رئيسي وزراء في تركيا في الوقت الراهن، ولا يوجد رئيس للجمهورية. وعندما لا يصبح هناك رئيس جمهورية، حُرمت السياسة من حَكَم يحكم ويفصل في المنازعات. ويجب على مَن يتولّى منصب رئيس الجمهورية أن يكون ضمانة للسلام المجتمعي والتناغم السياسي بمواقفه الحيادية والمترفّعة عن الخوض في الخلافات السياسية. لكن السيد أردوغان ضرب عرض الحائط بالحيادية المنصوص عليها في الدستور والتي حاول مَن كان قبله اتباعها على مدار عقود، الأمر الذي أفضى إلى حدوث فراغ في الهيكل السياسي في تركيا. والأنكى من ذلك أنه يصدر تصريحات حادة وعبارات انتقامية تتسبب في تعميق التوتر والاستقطاب والاختلاف بين أبناء المجتمع.
فهل يمكن أن تدار شؤون رئاسة الجمهورية من قِبل شخص لا يتورّع عن الدخول في جدل مستمر مع أحزاب المعارضة كالشعب الجمهوري والحركة القومية والشعوب الديمقراطية ولا يستطيع أن يقطع علاقته بالحزب الحاكم؟ وقد أصاب أردوغان جميع الأحزاب بالاضطراب، بالأخص حزبه الذي (كان) ينتمي إليه…
كان رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدار أوغلو قد صرح في وقت سابق بقوله: “أعتذر، لكنني مضطر إلى أن أقول ذلك.. لا يمكن لرئيس الجمهورية أن يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، ولا يمكن أن نراه في كل شيئ كالملح والفلفل، لكن السيد أردوغان لا يتورّع عن فعل هذا دوماً. فإن كان يتولّى منصب رئيس الجمهورية فعليه أن يقوم بالمهام المحددة له في الدستور فقط”.
وقد أعرب كيليتشدار أوغلو عن حزنه بينما كان يقول هذه الكلمات، وأفاد بأنه يحترم منصب رئيس الجمهورية. ولاشك في أن الانتقادات المماثلة التي وجّهها كل من دولت بهشلي رئيس حزب الحركة القومية وصلاح الدين دميرطاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطية لم تأتِ من فراغ. ولاسيما ما يقوله مسؤولو حزب العدالة والتنمية خلف الأبواب المغلقة، إذ بدأ فريق كبير من مسؤولي الحزب يصاب بالضجر جراء تدخُّل أردوغان في كل شيئ واستقطابه للمجتمع. وهذا أمر طبيعي؛ ذلك أن أردوغان يريد أن يصبح كلُّ شيئ في تركيا تحت إمرته. ولاريب في أنه لا يمكن أن تتحمل نفسيةُ المجتمع وطبيعةُ المواطن هذا الطراز من الإدارة، ناهيك عن الدستور والقانون خصوصًا في هذا العصر الذي نعيشه…