بقلم: عاصف بارلدار
حصل حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية عام 2011 على نسبة تقرب من 50 في المئة من الأصوات. إلا أن نسبة الأصوات التي حصل عليها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أجريت في السابع من يونيو/ حزيران الجاري جاءت بحدود 40.8 في المئة بشق الأنفس ليعجز عن الانفراد بالحكومة والحصول على الأغلبية المطلقة بالبرلمان.
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن هو: ما أسباب خسارة العدالة والتنمية، الذي اقترن اسمه بأردوغان وتأسس على أكتافه وعدد قليل من رفاقه، ما يقرب من 10 في المئة من الأصوات؟
في الحقيقة، ثمة أسباب عديدة للإجابة عن هذا السؤال، إلا أنني أرغب في سرد أهمها فقط.
غلاء المعيشة والضرائب والبطالة
أظهرت نتائج استطلاعات الرأي أن مستجدات الأمور التي شهدها القطاع الاقتصادي جاءت على رأس العوامل التي خفضت نسبة أصوات العدالة والتنمية. وفي الوقت الذي خلقت فيه حالة الركود التي شهدها السوق تفاعلاً تسلسلياً يُعرف بـ “تأثير الدومينو” لدى جميع الفئات بسبب السياسات التي تنتهجها الحكومة، أدى ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة التركية إلى زيادة التكاليف وغلاء المعيشة من ناحية أخرى.
كما أن الضرائب المتتالية التي فرضتها الحكومة، أفضت إلى حالة برود غير مسبوقة من قِبل الناخبين تجاه العدالة والتنمية واضطرتهم إلى الاتجاه للبحث عن بدائل أخرى، إضافة إلى أن غلاء المعيشة بات على رأس الموضوعات التي تدور في نقاشات الأسر داخل البيوت.
يمكن القول بأن التصرفات التعنتيّة التي يتخذها رجب طيب أردوغان وتحركه كأنه رئيس لحزب العدالة والتنمية بالرغم من انتخابه رئيسًا للجمهورية، خلقت حالة من الانزعاج لدى الشارع التركي، وهو ما اضطر أردوغان، لاسيما بعدما رأى ذوبان أصوات الحزب، للنزول إلى الميادين الانتخابيّة لجمع أصوات من أجل العدالة والتنمية؛ وبمعنى آخر لم يسعَ أردوغان لاحتضان شعبه على اختلاف مشاربه وليُرسِ مبدأ التناغم مع طوائف المجتمع ككل انطلاقًا من كونه رئيسا للجمهورية.
لقد نبذ كل من أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داوداوغلو وآخرين من قيادات الحكومة، الناخبين الذين لم يدلوا بأصواتهم للعدالة والتنمية، كما حالوا دون سماع أية انتقادات أو شكاوى من المعارضين لهم، واتّهموا كل من وجه لهم انتقادًا بالخيانة والتجسس على البلاد؛ لدرجة أن فئة من المجتمع اتّهمت معارضي حكومة العدالة والتنمية بالإلحاد.
إخفاقات الحكومة في السياسة الخارجية
لاشك في أن إخفاقات حكومة العدالة والتنمية على صعيد السياسة الخارجية في السنوات القليلة الماضية لعبت دورًا مؤثرًا للغاية في المرحلة التي بدأتها أنقرة مع دول الجوار انطلاقًا من شعار “صفر المشاكل مع دول الجوار” ، لك النظرية التي أرسى قواعدها داوداوغلو عندما تولى حقيبة وزارة الخارجيّة، إلا أن هذه النظرية باءت بالفشل وآلت إلى “صفر علاقات مع دول الجوار”؛ أي أنها خسرت جيرانها جميعاً من حيث أرادت أن تحسن معهم علاقاتها.
تدخلت الحكومة التركية كثيرًا في الشؤون الداخلية لسوريا، إلى أن اندلعت حرب أهليّة بين أبناء الشعب الواحد. فعلى سبيل المثال؛ كان هناك فهم وحسابات أخرى لتصريحات أردوغان بأنه سيؤدي الصلاة في الجامع الأموي ولن يسمح بحدوث “حماة جديدة”. والنتيجة بعد كل ذلك هي أن هناك ما يقرب من مليوني سوري يعيشون في الأراضي التركية، وهو ما أثّر بصورة سلبية على الاقتصاد التركي والبنية الاجتماعية.
أما عن سياسة تركيا تجاه مصر، فهي مغامرة من نوع آخر؛ فأردوغان لم يحسن قراءة المشهد في مصر وقدّم دعمًا صريحًا لجماعة الإخوان المسلمين من خلال رفعه إشارة “رابعة” في الميادين. إلا أنه لم يستطع أن يحول دون عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي.
التعتيم على ملفات الفساد والرشوة في 17 و25 ديسمبر 2013
تمّ اعتقال 89 شخصًا، بينهم أبناء وزراء ورجال أعمال، في مقدمتهم باريش جولر ابن وزير الداخلية السابق معمر جولر، وصالح كعان تشاغلايان ابن وزير الاقتصاد السابق ظفر تشاغلايان، وعبد الله أوغوز بايراقتار ابن وزير البيئة والتخطيط العمراني السابق أردوغان بايراقتار، والمدير العام لبنك “الشعب” (خلق بنك) التركي الحكومي سليمان أصلان، وكل من رجال الأعمال علي أغا أوغلو ورضا ضراب (أو صرّاف) ورئيس بلدية حي الفاتح مصطفى دمير في إطار عمليات الفساد والرشوة، أكبر عملية فساد في تاريخ تركيا، التي تكشفت وقائعها في 17 و25 ديسمبر/ كانون الأول 2013.
وصدرت تعليمات من داخل حزب العدالة والتنمية بتقديم الوزراء الأربعة السابقين المتورطين في أعمال الفساد استقالتهم لإبعاد الأنظار عنهم وتضليل الرأي العام إلا أنه لم تتم محاكمتهم، ولعل هذا الأمر وحده هزّ ثقة الشعب تجاه الحكومة؛ ذلك أن هذا الحزب الذي يخرج على الناخبين في الميادين بشعارات دينيّة يحترمها عامة الشعب لم يقدم وزراءه للمحاكمة.
قرار القضاء على حركة الخدمة
عقب عمليات الفساد والرشوة في 17 و25 ديسمبر 2013، وجّهت حكومة العدالة والتنمية للقضاة والمدعين العموم ورجال الأمن الذين تولوا التحقيق في هذه العمليات اتّهامات شنيعة من قبيل التجسس على الدولة، وزعمت محاولتهم للانقلاب على الحكومة والإطاحة بها. وكان من اللازم لمواصلة هذا المخطط، إيجاد عدو أو كبش فداء لإسدال الستار على عمليات الفساد والتعتيم عليها. وسُرعان ما وجدت هذا الكبش؛ وما فتئت تتهم حركة الخدمة لاسيما وأنها تنظر إليها منذ فترة طويلة على أنها منافس لها، بحسب زعمها. وهذه المرحلة اضطرت الخدمة إلى الدفاع عن نفسها بل ومعارضتها لأن أردوغان فتح بالفعل الحرب ضدها، وسعى لإغلاق مراكز التقوية الخاصة والمدارس المقربة من الخدمة بُغية القضاء عليها، بالرغم من أنها تحظى بقبول كبير جدًا لدى المجتمع، وتمتلك مدارس مشهودا لها بالكفاءة داخل تركيا وخارجها.
التدخل في القضاء
لا أكون مبالغًا إن قلتُ إن أحداث الفساد في 17 و25 ديسمبر 2013 قلبت الموزاين وأربكت حسابات حكومة العدالة والتنمية. حيث تم نقل آلاف رجال الأمن والمدعين العموم والقضاة وفصل الكثير منهم. علاوة على أن أردوغان لم يكتفِ بذلك، بل راح يتدخل تدخلا سافرًا في القضاء؛ وأسّس دوائر قضائيّة تحت مسمّى “دوائر الصلح والجزاء”، هل تعرفون لماذا؟ السبب هو الحيلولة دون متابعة قضية ملف الفساد بعدما عيّن فيها القضاة المقربين منه، أي أنه تدخل في الجهاز القضائي بشكل علنيّ، والشعب رأى هذه الخطوات التي تقفز على الدستور.
تراجعات في حجم الصادرات
مع أن الحكومة تعهدت بأن حجم عائدات التصدير سيصل إلى 201.2 مليار دولار، إلا أن ذلك الوعد تبخر ولم يتحقق. حيث بلغ حجم الصادرات في الأشهر الثلاثة الأولى لهذا العام 37 مليار دولار بتراجع 7.5 في المئة عن الفترة نفسها من العام الماضي. وكان رئيس الوزراء أحمد داوداوغلو تعهد بتأسيس وكالة فضاء تركية في برنامج مجلس الوزراء الـ 62 الذي أعلن عنه في البرلمان التركي في الأول من سبتمبر/ أيلول 2014، إلا أن البرلمان لم تعرض عليه أية قوانين بشأن تأسيس وكالة فضاء.
وجملة القول إن هذه العوامل التي تعرضنا لها في معرض مقالنا كان لها دور كبير في تراجع أصوات العدالة والتنمية؛ وطبعًا هناك عوامل أخرى لم نذكرها.