إسطنبول (زمان عربي) – يطلق المتخصصون في الخطّ العربي على الخط الذي لا يبين من الوهلة الأولى ولا يمكن رؤيته وملاحظته جيدًا إلا عن كثب “خط الغبار” الذي يعرف أيضاً باسم” الكتابة المجهرية”نظراً لدقة حروفه.
واسم الخط مشتّق من الغبار بسبب الصغر والدقة، وهذا الفن مرتبط إلى حدكبير بالتصوّف،كما أن الكتابة تتم تحت عدسة المجهر حيث تستخدم فرشاة دقيقة تصنع من شارب الثعلب.
وهذا النوع من الخط الذي اختُرع أصلاً لاستخدامه في الخطابات والرسائل التي كانت ترسل قديمًا عبر الحمام الزاجل يصمّم على نحو يتناسب ويتسع لآية قرآنية تُكتب على حبة عدس.
ونظرًا لأن السفر كان أمرًا متعبًا وشاقًا في العصور القديمة، فكان يتحتم على المسافر أن يحمل معه في سفره متاعًا وأغراضًا بأحجام قليلة. ولم يكن من السهل على الإطلاق المواظبة على العبادات وحمل المصاحف والكتب الثقيلة الـمُغلفة بمجلدات سميكة في أثناء السفر.
ومن ثم كان يحمل المسافرون الذين يرغبون في التخفيف من وعثاء السفر ومشقته مصاحف صغيرة بحجم كفّ اليد مكتوبة بالخط الغباري. فضلا عن أنهم كانوا يأخذون معهم المصاحف الصغيرة التي كان بإمكانهم أن يضعوها في جيوبهم بسهولة لصغر حجمها عندما كانوا يخرجون في الرحلات التي تستغرق وقتًا طويلا أو ينطلقون للغزوات. كما كانت تعلّق هذه المصاحف على الراية من أجل رفع وتعزيز الروح المعنوية لدى الجنود.
وفي واقع الأمر يعرف الجميع، كثيراً أو قليلاً، الخط الغباري ذلك لأنه من الممكن أن نصادف هذا النوع من الخطوط الذي لا يبين من الوهلة الأولى في اللوحات القرآنية المكتوب عليها سورة “يس” الجليلة على وجه الخصوص.
وبعد قراءة هذا المقال، ننصحكم بإمعان النظر في اللوحات التي ستصادفونها والتي تتضمن آيات قرآنية، حيث سيظهر فيها الخط الغباري وكأنه ممسوح في ثنايا خطوط عريضة، الأمر الذي سيثير لديكم الحيرة ويقودكم إلى التفكير والتأمل.
والخط الغباري يحمل أيضاً في طياته عمقاً فلسفياً من حيث إنه تعبير بلسان الفنّ عن دلالة كل أجزاء الكون، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، جماداً أو حياً، على الأسماء والصفات الإلهية المتجلية على مستويات مختلفة في هذا الكون الشاسع.
والعلامة الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي وضع مفهومين – ولعله لم يسبقه فيهما أحد من قبله في هذا المضمار – جديرين بالملاحظة، وهما “المعنى الاسْمِيّ”و”المعنى الحَرْفِيّ”، أي الاسم والحرف في النحو، حيث يقول إنه يجب النظر إلى كل شيء في هذا الكون بالمعنى الحرفي لا الاسمي، فالحرف لايدل على معنى في نفسه،بل لابد أن يُركب مع كلمة ليدل على معنًى ما؛ كذلك كل شيء في الكون لايكون له قيمة حقيقية إلا بانتسابه إلى الله عز وجل؛ أمّا النظر إلى الأشياء بالمعنى الاسمي، وعدَّها كائنات مستقلّة تدلّ على معنى في نفسها فليس إلا ضلالا وخداعا.
ويسعى الخطاط التركي المعاصر نجاتي كوركماز لإعادة إحياء هذا الخط الذي تم استخدامه من قبل الكثير من الخطاطين في القرن التاسع عشر الميلادي لكنه تعرض للاندثار فيما بعد. وكوركماز الذي يقوم بالكتابة على حبات العدس بفضل تقنيات وأساليب طورها بنفسه، لا يُعرف بهذه الميزة فحسب، بل يُعرف أيضًا بكتاباته على حبات الأرز، والجمال التي يضعها داخل خرم الإبرة، والصور الظلية لمدينة إسطنبول التي يرسمها بسن القلم الرصاص.
والعمل الذي يقوم به كوركماز يتطلب مجهودًا وصبرًا مثلما هو الحال مع الفنون الأخرى. إلا أنه يتمتع بخصوصية وميزة مختلفة مقارنة بالآخرين لأنه يقوم بهذا الفن على أحجام صغيرة.
الخط الغباري على قدم الحمام
وكلمة الغبار تعني في اللغة العربية التراب. وهو واحد من عشرات أنواع الخطوط التي يتمتع كل منها بمهمة مثل الثلث والمحقق والريحاني والتوقيع والنسخ والديواني والرقعة والسياقات. وتم استخدامه في المراسلات اليومية والوثائق الأرشيفية في العصور القديمة التي لم تشهد الميكروسكوب. كما استخدم الكتبة هذا الخط من أجل أن تتسع المراسلة للأوراق الصغيرة قدر الإمكان التي كان يتم إرسالها في قدم الحمام الزاجل.