إسطنبول (زمان عربي) – تناول المفكر الإسلامي التركي الأستاذ فتح الله كولن في درسه الأسبوعي الأخير جملة من القضايا التي تشغل عقول المسلمين في كل أنحاء العالم مؤكّداً أن الإسلام ينتشر من خلال سمت وحال المسلمين لا من خلال خطابات وأقوال رنانة خالية من الروح والمعنى وأن الإسلام يئنّ اليوم بسبب جور أعدائه وغدر مدعي الإسلام.
وفيما يلي لمحات من درسه الأخير:
– من الصعب أن نرى جوهر وروح الإسلام في عالمنا اليوم، فالسائد في كل مكان هو الشكل والصورة والكلام فقط..!
– انسلخنا وابتعدنا كثيرا عن روح العيش وفق مبادئ وأوامر الدين الإسلامي، فلم يبق منه بيننا سوى الكلام عنه؛ أما معناه ومحتواه فأصبح في طي النسيان، ولم يبق منه سوى شكله وصورته اللذين التصقا بنا وسارا وراءنا كظلنا.
– لنا ملاحظة كثيرًا ما نردّدها، ألا وهي: لو كنتم أناساً نشأتم وترعرعتم في كنيسة أو معبد يهودي، ثم نظرتم إلى ديار التعساء كالقبور المتحركة التي نطلق عليها العالم الإسلامي بمنظار يُظهر الأماكن البعيدة جدًا، هل كان يستيقظ في نفوسكم شعور يحثكم على اختيار الإسلام وإشادته وتبجيله؟ أخاطب بهذا السؤال ضمائركم المنصفة!
هل يمكن لغير المسلمين أن يعتنقوا الإسلام وهم يرون وضع العالم الإسلامي الحالي؟
– أريد أن أخاطب ضمائركم وأوجه لكم سؤالًا باعتباركم مشاهدين لهذا الوضع الأليم: لو كنتم نشأتم وترعرعتم في كنيسة أو معبد يهودي أو في بيئات وأوساط مختلفة كالبوذية والشنتوية، ثم وضعوا العالم الإسلامي على طاولة التشريح فأطلعوكم على بنيته الداخلية، فرأيتم فيه الناس الذين يأكلون بعضهم بعضًا، والذين لا يميزون بين الحلال والحرام، والذين لا يعترفون بالعدالة والقوانين، والذين يتسمّمون إذا ما سيطروا على السلطة والقوة، والذين يرتكبون كل المساوئ والأخطاء… أريد هنا أن أسألكم: هل كنتم ستختارون الإسلام حقًّا”؟
فقر السمت الإيماني والسلوك الإسلامي لدى المسلمين!
– يبدو مما ذكرنا أعلاه أن السبب الذي يكمن وراء تعثّر وتخبّط العالم في مستنقع أفكار باطلة هو غياب لسان الحال وفقر السمت الإيماني والسلوك الإسلامي لدى المسلمين وفشلهم في إدراك لبّ المشلكة.
– الناس ينظرون إلى الأحوال والأفعال والتمثل. ولاشكّ في أن جميع الصفات الحميدة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأعماله وأخلاقه تتسم بالعمق. وكذلك اتصاله بالعالم الموجود وراء السماء مع وجوده في الأرض، وتلقيه رسالة منه (الوحي) وتبليغه إياها للناس– وهو ما يطلق عليه عملية الإرسال والتبليغ–.. كل ذلك يتمتع بعمق أكثر من أعمق الأغوار.
لكنني أظن أنكم لو وضعتم تمثل الرسول عليه السلام للدين إلى جوار تبليغه إياه، ووضعتم البنية الداخلية لهذا التمثل على طاولة التشريح لقلتم: “إن تمثله أعمق بكثير من تبليغه”، حيث عاش مستميتاً من أجل ما بلّغه وتحدّث عنه لسانه.. فهو ترجم إلى حياته العملية كلّ ما تحدث عنه.. فمثلاً أمرنا بـ”الصلاة”، لكنه أتى بها بمقدار عشرة أضعاف منّا، فكان يصلي حتى تتورم قدماه.
الرسول الأكرم عليه السلام كان دومًا يعطر فمه بذكر الله عز وجل، وكان لسانه يتحرك باسم الله تعالى في كل زمان وكل مكان. والناس الذين شاهدوه وهو على هذه الحال من الاستقامة على مدار سنوات قالوا: “لو كان هناك تقليد وخداغ وتصنّع بمقدار واحد في الألف في هذه المسألة لكنّا رأينا انحرافًا واحدًا بلاشك. إذن فهذه الاستقامة تدل على أن هذا الإنسان رجل مستقيم وصادق في دعواه وأحواله. كما تظهر هذه الاستقامة أن صلة هذا الرجل بربه قوية جدًا، وأنه استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.”
ولذلك عندما رُفعت عن أعينهم غشاوة تقليد الآباء والأجداد، وغشاوة ذلك الكبر والغرور والنظرة المنحرفة فما كان منهم إلا أن دخلوا في الإسلام أفواجاً، كما أخبرنا الله تعالى في محكم تنزيله بسورة النصر.
– كان سمت الرسول عليه السلام وحاله وتمثله للدين ينعكس على قلوبهم ويتغلغل في أفئدتهم بحيث كانوا يقولون عند رؤيته لأول مرة: “والله إن وجهه ليس بوجه كذّاب.. لا كذب في سلوكياته وأحواله وأفعاله”. تلك الحال وهذه الكيفية والنوعية في السلوك هو الذي كان يفتح القلوب ويثير مشاعر الغيرة لدى الآخرين. وهذا هو الأمر الذي نفتقده نحن.
لا يمكن للمطَّلعين على حال تركيا أن يعتنقوا الإسلام!
– ونظراً لما سبق، فإنه لا يمكن أن نتصور مبادرة أناسٍ ينظرون إلى تركيا من الخارج إلى اعتناق الإسلام. وأظنّ أنه لا يوجد حتى مائة إنسان دخلوا في الإسلام بفضل جهود ومساعي الذين يديرون هذه الدولة العملاقة منذ سنوات وبالنظر إلى أحوالهم – على الرغم من استخدامهم كل إمكانيات الدولة – لكن هناك كثيرا من الناس انتبهوا للحقيقة بفضل أناسٍ حاولوا تقليد درب الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته قليلاً أو كثيراً، انطلاقاً من روح الإخلاص ونذر العمر في سبيل تحقيق غاية سامية.
المهاجرون في سبيل غاية سامية دخلوا القلوب بفضل لسان الحال والتمثل وليس بالتبشير
– إن درب الناذرين أنفسهم لخدمة الدين ليس التبشير والإكراه والدعاية، بل إنهم يستخدمون لسان الحال والتمثل. أما مخاطبو هؤلاء فتلين غرائزهم النفسانية والحيوانية والبشرية أمام أشعة وتجليات هذا السمت وهذه الحال والكيفية، ويدَعُون قيمهم الذاتية جانباً ثم يسارعون إلى قول: “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله”.
كان الصحابة الكرام والتابعون العظام بصفة خاصة قد اضطلعوا بمهمة الدعوة إلى الله عزّ وجلّ على نحو كامل عبر السمت والحال والتمثل على “مستوى الأصلية” لطريق الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما أولئك المهاجرون الذين شدوا الرحال لغاية سامية فيضطلعون اليوم بهذه المهمة بنسبة محدودة وعلى “مستوى الظلية”. ومع أنه لا نعرف ما إذا كان هؤلاء يعيشون ويمتثلون نصف الدين أو ربعه، لكن لا شكّ في أنهم يتمتعون بروح الإخلاص والتفاني ونذر العمر كله في سبيل الله. ولأنهم ثابتون على مواقفهم مثل السابقين، فإن الله سبحانه وتعالى يفتح الطريق أمام حفنة من الناس لينجزوا من الأعمال ما تعجز الدول عن الإتيان به. وذلك على الرغم من ماذا..؟ على الرغم من إعلانِ البعض حرباً وحالة استنفار عامة ضدكم في سبيل إغلاق المؤسسات التي فتحتموها، وتعبئةِ جميع ممثلي البعثات الأجنبية من خلال التأثير في أشخاص مختلفين على مدار سنوات ليهجموا عليكم وعلى هذه المؤسسات..!
لِنَمُتْ فردًا فردًا أو جميعًا إن لزم الأمر لتحيا الإنسانية
– بالرغم من كل ذلك، مازلنا نستقبل من هنا وهناك ما هو تعبير عن الأفكار والتصورات السليمة في هذا الصدد، إذ يقول الناس: “ألا تستطيعون فتح مزيدٍ من المدارس؟ إن فتحتم المدارس، فلماذا لا تفتحون جامعات ومراكز بحثية؟ لماذا لا تؤسسون معامل ومختبرات جادة؟”. أجل نرى من ناحيةٍ أعمالاً هدّامة، لكن من ناحية أخرى نجد أن الأعمال التي أُنجزت بفضل تمثل طريق الصحابة ولو بمقدار النصف أو الربع أو حتى الواحد في العشرة تثير وتوقظ مشاعر الغيرة والرغبة عند الآخرين تجاه مبادئنا وقيمنا – بإذن وعناية الله تعالي.
نعم إن الناس يغبطون حال وسمت الأشخاص الذين نذروا أرواحهم في سبيل الله، ويريدون منهم أن يزيدوا من أنشطتهم وفعالياتهم. ذلك أن أعمالهم لا يشوبها كذب أورياء أو سرقة. ولا يقولون مثل الآخرين إن “السرقة جائزة”، ولا يستحلون “الرشوة”، ولا يعبدون الدنيا، ولا يفكرون في المستقبل الذاتي لأنفسهم. بل إنهم يلقون بأنفسهم وسط تيار مجهول قائلين: “أيّا كان ما حدث لنا، لكن لا تتعرض الإنسانية له ولو بمقدار عُشر ما يصيبنا. لِنَمُتْ فردًا فردًا أوجميعًا إن لزم الأمر لتحيا الإنسانية”.
إنهم أناس يلتزمون بفكرة ومبدأ “العيش من أجل حياة وإحياء الآخرين”. فإذا كنّا سنعيش من أجل بقاء الآخرين فلاشك في أن العيش يكسب حينها قيمة، وإلا فالعيش يكون عبثاً ويخلو من أية قيمة وجدوى.