بقلم: ياوز أجار
كنتُ زعمت في حوار أجرته معي إحدى الصحف العربية في شهر شباط المنصرم “أن الحواسيب الإلكترونية التابعة للحزب الحاكم في تركيا هي التي ستحدد مصير الاستفتاء الدستوري وليس الشعب التركى”، وذلك انطلاقًا من التجربة التي عاشتها تركيا من خلال إعادة الانتخابات في تشرين الثاني / نوفمبر من 2015، والتي نجح فيها الرئيس رجب طيب أردوغان تقديم الحكومة المنفردة لحزبه في “طبق من ذهب” مجددًا، بعد أن فقدها في الانتخابات السابقة التي أجريت في 7 حزيران / يونيو من العام نفسه.
ومع أنه لا يبعث على السرور، إلا أن السلطة الحاكمة في تركيا لم تخيّب ظني بها! إذ يبدو أن “الحواسيب الألكترونية التابعة للمجلس الأعلى للانتخابات” تدخلت في الأمر ومنعت في اللحظة الأخيرة انخفاض الأصوات الداعمة للتعديلات الدستورية تحت 50%، وفق مزاعم المعارضة التركية والتقارير الدولية.
لقد انطلق مارثون عملية التصويت على سابع استفتاء شعبي في تاريخ الجمهورية التركية في 32 مدينة بمناطق شرق البلاد في تمام الساعة السابعة من صباح يوم الأحد 16 نيسان / أبريل 2017، ثم لحقت بها المدن الأخرى الواقعة في غرب البلاد في تمام الساعة الثامنة، لينتهي في تمام الساعة 16:00 بالمدن الشرقية، وفي تمام الساعة 17:00 بالمدن الغربية وفق توقيت تركيا.
“القطط” تتحول إلى رمز للتزوير!
ونظرًا لأن “القطط” باتت “رمزًا” في أدبيات الانتخابات التركية تدل على “التزوير” و”التلاعب في النتائج”، بعد أن عزا وزير الطاقة السابق تانر يلديز سبب انقطاع الكهرباء في عدد كبير من المدن أثناء عملية فرز الأصوات وعدّها خلال الانتخابات السابقة إلى تسلّل قططٍ إلى المحطات الكهربائية في تلك المدن، بدأت أخبار القطط تأتي مبكرًا في هذا الاستفتاء الذي اعتبره الرئيس أردوغان وأنصاره مصيريًّا وضروريًّا لكي تتخلص بلادهم من الواقع المرير وتستشرف آفاق المستقبل المنير!
مدينة كوجالي المتاخمة لإسطنبول كانت أولى المدن التي جاءت منها أخبار القطط في الساعات الأولى من صباح الأحد، حيث سلّط مراقبو حزب الشعب الجمهوري المعارض الأضواء على سيدة وهي تصوّت في صندوقين انتخابيين مختلفين، ليتوالى بعدها هذا النوع من الأخبار في كل أرجاء تركيا. كما أن بلدة جزرة التابعة لمدينة شرناق شرق البلاد شهدت تسلل مجموعة من القطط إلى المحطة الكهربائية الرئيسة في البلدة، على وجه الحقيقة وليس على سبيل المجاز، بحسب مزاعم السلطات، لتسسبّب في انقطاع الكهرباء أثناء عملية فرز الأصوات وتعدادها! الأمر ذاته حدث في عديد من المراكز والبلدات، منها حي أوسكودار في إسطنبول الذي يعد “قلعة” حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، إلا أن النتائج كانت صادمة، حيث قال 53% من سكانه “لا” في الاستفتاء!
مزاعم بوجود 2.5 صوت مزور
“أخبار القطط” بلغت أوجها عندما انتشرت مزاعم بوجود نحو 2.5 مليون ظرف وورقة تصويت غير مختومة عليها بالأختام الرسمية بعد ظهر يوم الاستفتاء. ولكن الذي قصم ظهر البعير هو إقدام المجلس الأعلى للانتخاباب على احتساب هذه الأظرف وأوراق التصويت الخالية من الأختام الرسمية ضمن الأصوات الصحيحة، رغم أن قانون الانتخابات التركي صريح جدًا في بطلان هذا النوع من الأصوات، الأمر الذي أقام المعارضة ولم يقعدها حتى اللحظة. ومما زاد الطين بلة هو أن رئيس المجلس الأعلى للانتخاباب سعدي جوفين أعلن خلال مؤتمر صحفي عقده ليلة الاستفتاء الدستوري أن أعضاء المجلس اتخذوا هذا القرار نزولاً عند طلب حزب العدالة والتنمية الحاكم، وهو الأمر الذي قال عنه زعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو “إن رئيس المجلس يستمد قوته وشرعيته من الرئيس أردوغان وحزبه بدلاً من الدستور”.
وفي أعقاب انتهاء عملية التصويت، بدأت وكالة الأناضول “الرسمية” تنقل نتائج الاستفتاء، باعتبارها الوكالة الوحيدة التي تتابع الانتخابات في تركيا، بعد أن فرضت الحكومة حراسة قضائية على وكالة جيهان للأنباء الخاصة التي كانت تزود المشتركين فيها بالنتائج الصحيحة حتى قبل إعلان النتائج الرسمية بفارق ضئيل جدًا مع معطيات المجلس الأعلى للانتخابات، والتي كانت ضمانة مهمة لنزاهة الانتخابات وشفافيتها. وكانت النتائج الأولى التي حصلت عليها الوكالة الرسمية عبر مراسليها المنتشرين في كل قرى وبلدات ومدن تركيا تشير إلى بلوغ نسبة الدعم للتعديلات الدستورية 66%، غير أن الأحزاب المعارضة زعمت أن وكالة الدولة تتعمد تقديم نسبة الدعم عالية جدًا حتى ينسحب المراقبون المعارضون من اللجان الانتخابية لكي يتمكن الحزب الحاكم من التلاعب في النتائج بكل سهولة، داعية مراقبيها ومؤيديها إلى البقاء في اللجان حتى تتم عملية فرز الأصوات وعدها. وكلما مر الوقت خفضت الوكالة الرسمية نسبة الدعم إلى أن وصلت إلى 51.3%. ثم خرج رئيس المجلس الأعلى للانتخابات على الشاشات التلفزيونية معلنًا الموافقة على التعديلات الدستورية بفارق مليون صوت تقريبًا، على أن يعلن النتائج الرسمية النهائية عقب اكتمال الإجراءات المعنية في غضون أسبوع واحد.
وظهر بعد ذلك أن وكالة الأناضول أجرت بثًّا تجريبيًّا قبل يوم واحد من بدء مارثون الاستفتاء الدستوري، وقدمت الأرقام الخاصة بالنتائج المحتملة إلى المشتركين فيها، إضافة إلى نشرها عبر موقعها الإلكتروني، لكن اللافت هو أن هذه الأرقام جاءت متوافقة تمامًا مع النتائج الرسمية المعلنة بعد يوم واحد من قبل المجلس الأعلى للانتخابات. ففي الخامس عشر من أبريل/ نيسان، أي قبل يوم من الاستفتاء توقعت وكالة الأناضول أن تبلغ نسبة الأصوات الموافقة 51.3%، في حين ترقبت أن تبلغ نسبة الأصوات الرافضة 48.7%، إضافة إلى تخمينها أن تصوّت المدن الكبرى مثل أنقرة وإسطنبول وديار بكر وإزمير بلا. وهذه النتائج هي النتائج بعينها التي أعلن عنها مجلس الانتخابات بعد يوم واحد، مما زاد الشكوك المثارة حول النتائج.
الاستياء المرسوم على وجه أردوغان ليلة الاستفتاء
خرج بعد ذلك الرئيس أردوغان على عدسات الكاميرات في قصر “هوبر” بمدينة إسطنبول ليعلن “انتصاره بطعم الخسارة”، لكن لم يستطع أن يخفي صور القلق والاستياء والغضب المرتسمة على ملامح وجهه ووجوه صهره وزير الطاقة برات ألبايراق ومستشاريه، نظرًا لأن الفارق بين الرفض والقبول كان ضئيلاً جدًا. وكانت توقعاتهم عن نتائج الاستفتاء عالية قدروها 60% على أقل تقدير لكنهم حققوا الفوز بشق الأنفس بل كادوا أن يخسروا، ما يمكن أن يكون محملاً لهذا القلق والاستياء بل الغضب. ولذلك رأينا أنه بادر إلى توجيه دعوة لدول العالم للاعتراف بهذه النتائج، غير أن الولايات المتحدة أعلنت أنها ستنتظر تقارير منظمة الأمن والتعاون الدولية حول الاستفتاء لكي تبدي رأيها حولها. وكذلك أعلن البيت الأبيض مساء الثلاثاء أن اتصال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظيره التركي أردوغان لا يعني اعترافه بنتائح الاستفتاء الدستوري في تركيا.
لم ينقطع دابر النقاش مع إعلان النتائج الرسمية غير النهائية من طرف المجلس الأعلى للانتخابات، حيث أصرت المعارضة على وقوع أكبر عملية تزوير وتلاعب في النتائج، متهمين المجلس بالتواطؤ مع الحزب الحاكم على هذه الجريمة، وذلك لعدّه الأظرف وأوراق التصويت التي لا تحمل أختامًا رسمية ضمن الأصوات الصحيحة. إذ ادعى حزب الشعب الجمهوري أن الأظرف وأوراق التصويت الخالية من الأختام الرسمية تقدر بحوالي 2.5 مليون، فيما زعم حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بحصول تلاعب في النتائج بنسبة 4% على الأقل، ومن ثم طالبت رسميًّا الأحزابُ المعارضة، بما فيها حزب الوطن اليساري الكمالي، بإلغاء نتائج الاستفتاء. لكن المجلس الأعلى رفض أمس الأربعاء كل هذه الاعتراضات، ما عمل على تفاقم انفراج الهوة بين الموافقين والمعارضين. إذ لا تزال المظاهرات من أجل الاحتجاج على مزاعم التزوير خلال الاستفتاء تتواصل في جميع أنحاء تركيا، خصوصًا بعد أن تبين أن مجلس الانتخبات اعترف بالأظرف وأوراق التصويت غير المختومة داخل تركيا ورفضها في عمليات فرز وعد أصوات الجاليات التركية في العالم! وكان الخبير الأمني والكاتب الصحفي الشهير أمره أوسلو جزم أن أردوغان لن يخاطر بنتائج الاستفاء وإنما سيتخذ التدابير الكفيلة بنجاحه، متوقعًا أن تندلع أحداث في كل أرجاء تركيا على غرار أحداث متنزه “جازي باركي” التي اندلعت في ميدان تقسيم بإسطنبول ثم توسع نطاقها حتى انتشرت في عموم البلاد. وليس عدد المحللين الذين يحذرون من تكرار هذه الاحتجات الموسعة ما لم تححق السلطة الحاكمة بشكل أو آخر التوافق والتضامن بين أفراد الشعب الذين انقسموا بين معسكري “لا” و”نعم” انقسامًا لا يرجى التئامه بسهولة، خاصة في ظل الهجمات التي يشنها الكتاب الموالون لأردوغان على المعسكر الرافض، مثل الكاتب الصحفي جيم كوتشوك بجريدة “ستار”، حيث قال: “مع أن الرئيس أردوغان فاز في الاستفتاء، إلا أنه ينبغي أن تستعدوا للحرب!”. كما اتهم الإعلام المعارض بتحريض الجيش على الانقلاب عبر السعي لإلقاء الظل على شرعية الاستفتاء، زاعمًا بأسلوبٍ وكأنه يصدر أوامر للسلطات القضائية أن الجهات القضائية تتابع جميع وسائل الإعلام المعارضة عن كثب وستتخذ كل الخطوات اللازمة فورًا.
تداعيات الاستفتاء على الصعيد الدولي
توافقت آراء كل الدول الغربية تقريبًا حول الاستفتاء الدستوري في تركيا مع ما ورد في تقرير منظمة الأمن والتعاون الأوروبية والمفوضية الأوروبية التي دعت السلطات التركية إلى فتح تحقيق شفاف بشأن مزاعم المخالفات المتعلقة بنتائج الاستفتاء. فقد أكدت رئيسة بعثة وحدة المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا تانا دي زولويتا أن الاستفتاء الدستوري لم يحقق المعايير الدولية المطلوبة بشكل عام، نظرًا لأن الأرضية القانونية لم تكن كافية لإجراء عملية ديمقراطية، في ظل استمرار حالة الطوارئ في تركيا. كما نوهت بأن قبول لجنة الانتخابات العليا الأصوات غير المختومة بالأختام الرسمية يتناقض مع قانون الانتخابات التركي، لافتة إلى أن السباق بين الرافضين والموافقين جرى في ظل ظروف غير متكافئة وفرص غير متساوية.
وعلقت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على الاستفتاء التركي بقولها: “أثبتت النتائج أن أردوغان ليس تركيا” نظرًا لأن نصف الشعب التركي رفضوا منح أردوغان الصلاحية المطلقة في كل شيء، بينما عقّب رئيس وزراء النمسا كريستيان كيرن برسالة مباشرة وواضحة إلى أردوغان قائلاً: “حلم تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي دفن تحت التراب. لا يمكننا أن نعود إلى روتين الأعمال اليومية بشكلٍ طبيعي بعد استفتاء تركيا. علينا أن نضع معايير محددة في العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي”. ومن اللافت أن دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية تجنبت تهنئة أردوغان حتى الآن، موضحة أنها ستحدد مواقفها وخطواتها وفق نتائج تقارير المراقبين الأوروبيين. واقتصرت الدول التي هنأته على قطر والعراق وفلسطين، إضافة إلى حركة النهضة التونسية وجماعة الإخوان لمصرية وتنظيم “أحرار الشام” المزعوم بعلاقته مع تنظيمي القاعدة والنصرة في سوريا المصنفين ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية لتركيا أيضًا!
ونهجت الصحف الغربية النهج ذاته مع الزعماء الغربيين في تقييماتها للاستفتاء التركي، حيث قالت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية في افتتاحيتها إن أردوغان الذي كان يتوقع أن يفوز بـ60% من إجمالي الأصوات فقد مدن تركيا الكبرى مثل أنقرة وإسطنبول وإزمير وأنطاليا، لافتة إلى أن شرعيته تزعزعت بسبب مزاعم المخالفات الانتخابية التي أكدها مراقبون دوليون. بينما قالت صحيفة “الجارديان” البريطانية إن كواليس الاتحاد الأوروبي بدأت الحديث عن تصريحات أردوغان التي زعم فيها أنه سيلغي مفاوضات الانضمام للاتحاد الأوروبي بعد خروج نتائج الاستفتاء بالموافقة على التعديلات الدستورية، ونوهت بأن مخاوف بروكسيل وباريس وبرلين بدأت تتصاعد بشكلٍ كبير. فيما أشارت مجلة “فورين بوليسي” الأميركي إلىة أن تركيا ستعزل نفسها أكثر على الساحة الدولية، خاصة من أوروبا والولايات المتحدة، بعد ورود معلومات تشكك في نزاهة الاستفتاء.
أردوغان وأزمة الشرعية
من المؤكد أن هناك عديدًا من الأسباب التي تفسر الصورة الغاضبة التي ارتسمت على وجه الرئيس أردوغان ليلة الإعلان عن نتائج الاستفتاء، لكن اطلاعه على نسبة الدعم الحقيقية التي كشف عنها الاستفتاء يأتي في مقدمة هذه الأسباب، حيث أظهرت النتائج أن هذه النسبة انخفضت إلى نحو 30% إذا أخرجنا الأصوات المستعارة القادمة إلى أردوغان من حزبي الحركة القومية والاتحاد الكبير والأحزاب المحافظة الأخرى، وافترضنا صحة المزاعم الواردة حول شتى صور الاحتيال والتزوير والتلاعب في النتائج. وهذا يعني بلا شكّ أن أيامًا صعبة تنتظر أردوغان الذي يواجه أزمة شرعية فعلاً، نظرًا لأن حربًا شرسة مؤجلة لاحت في الأفق بين الأردوغانيين “الإسلامجيين” – على حد تعبير خصومهم – والعلمانيين المتطرفين الذين استطاعوا استعادة كثير من المواقع المهمة في الدولة بعد أن فقدوها خلال الفترة الأولى من حكم العدالة والتنمية.