نوزاد جعدان
منذ استلام أردوغان زمام الرئاسة وهو يلقي الكلام على عواهنه، مستخدماً تارة مصطلحات عثمانية مندثرة ، وأخرى مستشهداً برباعيات شاعرها القومي عارف نهاد آسيا، ولا يتردد الرئيس التركي أبداً وهو يتخيل نفسه سلطاناً عثمانياً جديداً يمتطي مطية المبادئ العثمانية والعاطفة الدينية في زمن تأبى الشعوب فيه الخوازيق وأدوات الإرهاب؛ فإذا أراد الله إهلاك شخص ألهمه الطيش والجنون.
وجنون العظمة الملازم لأردوغان ليس وليد اليوم وإنّما نتاج مراحل عدة منذ استلامه رئاسة الوزراء في تركيا، وتصريحاته المتناقضة التي تحلم برفع رايات الماضي وهدم عروش الحاضر ، فتناقضاته العجيبة بلغت حد المساومة بالقضية الفلسطينية بصوت ينادي بالحرية لأهل غزة و في الكواليس يبرم اتفاقيات سرية حول شراء السلاح من إسرائيلويُقدّم ملايين الدولارات إلى اللوبي الصهيوني.
وليس هذا فحسب، بل تجاوز كل هذا ونادى بالقضاء على الإرهاب و ” داعش “، وهو الذي كان يمرر نتراتالأمونيوم وغيرها من المواد الخامالمستخدمة في تصنيع القنابل عبر الحدود التركية السورية إلى تنظيم ” داعش الإرهابي” ، ناهيك عن موقفه المخزي والمتفرج لدخول تنظيم ” داعش ” إلى مدينة كوباني وقيامه بمجازر رهيبة ضد الشعب الأعزل وذي الغالبية المسلمة، شأنه شأن القيصر الروسي في القرن الثامن عشر عندما أرسل من لدنه محرضين يندسون بين صفوف الثوار ومهمتهم إلقاء القنابل أو التحريض على ذلك.
هذاا النظام النفعي البراغماتي الذي يقوده أردوغان وخطاباته البريئة الشكل والمنخورة المضمون بنصرة الشعب السوري وبالمقابل نراه كشايلوك تاجر البندقية يساوم الدول الأوروبية حول قضية اللاجئين السوريين ويفرض تأشيرة دخول عليهم، ما هو إلا شعار يقوده حزب العدالة والتنمية، شعار بدأ تماماً كالحركة الفوضوية مثالية بعباراتها وصيغتها حتى تحولت إلى ملجأ للمحتالين، ولما لم يستطيعوا التغيير لجؤوا إلى إلقاء القنابل والتستر بها والكسب عن طريقها، وهذا حال الأنظمة الاستبداديةتلجأ إلى الإرهاب والقتل والاعتقال عندما يدق ناقوس الخطر على بقائها.
ولا غرو أن يستحضر السلطان العثماني من التاريخ مستنقعاته كهتلر النازي، ويعتبرهنموذجاً فاعلاًبشخصيته المقاربة له – الاثنان فور استيلائهما على الحكم استوليا على كل السلطات وتقوضت سلطة البرلمان وقضيا على جميع الأشكال الديمقراطية ونكّلا بالنزعات اليسارية – في ظل نظام داخلي يعاني من المحسوبية وفضائح في الفساد المالي، وتقلص في الإستثمار الأجنبي وتضخم النقد التركي، ولن يكون اجتياز أكمة حوادثها متراصة بالأمر الهين عليه والتي تقود إلى استياء في المزاج الشعبي العام ، فالبراكين تتفاعل تحت الأرض التركية وترتفع بالتدريج لتشقق الطبقة الأرضية التي يستند عليها أردوغان وحزبه.
الأفكار الناضجة تلوح في الأفق والرغبة الجامحة في التغيير تغلي في النفوس والقرائح الفكرية والوعي وصل إلى أوجه بين معارضيه ومثقفي تركيا،وليس فعلاً استباقيا ولا ضرباً من التحدي القول إن مرجل الثورة يغلي والتغييرات البسيطة تسير ولكن وعي الجماهير و مبادئ جديدة تسير بسرعة أكبر و تتمخض عن هذه المرحلة؛ مرحلة الاعتقالات والتعسف وطرد الصحفيين من العمل الذين قاموا بتغطية تظاهرات حديقة جيزي، واعتقاله الزعيم الكوردي صلاح ديمرتاش زعيم حزب الشعوب الديمقراطيإبان تصاعد نجمه وهو الذي وقف في وجه أحلامه السلطوية، ناهيك عن التنكيل بخصومه عبر الاعتقال والنفي وأشهرهم المفكر والداعية فتح الله غولن، والتشديد بالرقابة على الشبكة العنكبوتية التي ما هي إلا خطوات فعلية تبرز الوجه الحقيقي لميوله الاستبدادية؛ الأمر الذي دفع برئيس تحرير جريدة خبر ترك فاتح الطايلي بالقول إن كرامة الصحافة تداس بالأقدام.
هذا الكلاشيه الذي يرسمهأردوغان لنفسه كسلطان عثماني جديد تجلّى بوضوح أثناء استقباله الرئيس الفلسطيني في قصره أو بالأحرى حصنه الذي بناه لنفسه فور استلامه الحكم ومساحته تتجاوز البيت الأبيض وقصر فيرساي بأضعافأضعاف والشعب يعاني الأمرين من الأزمة الاقتصادية والسغب، وهو محاط بستة عشر حارساً بزيهم الذي يمثل حقب تركيا القديمة؛ بدءاً من الهون ومروراً بالسلاجقة ونهاية بالعثمانيين؛ وكأنه يستحضر شخصية السلطان في مسلسل حريم السلطان، هذا المسلسل الذي يمجّد السلطنة العثمانية،وغيرها من المسلسلات التي انتشرت مؤخرا في الدراما التركية لتشبع غرور أردوغان القائم على أمجاد الماضي نحو دمار عروش الحاضر.
وليست المسلسلات التركية الحديثة والغارقة في رومانسية فجة وأحلام وردية إلا لإغراق الشعب المسكين بقصص حب ساذجة أو بتاريخ تليد وطمس عيونهم عن الوضع المزري وسوء الأحوال الذي يعيشه هذا المجتمع الذي يجد ضالته في هذه المسلسلات مع سهرات الشرب يوم الأحد كمتنفس لينسى بها حاضره، إلى جانب قيامه بالمجازفات الحربية خارج البلاد لتحويل نظر الرأي العام عن شقائه لا سيما تخطيطه لغزو مدينة عفرين ونشر قاعداتهالعسكرية في قطر.
والواقع أن أردوغان يعزو حجته بغزو مدينة عفرين إلى التهديد الكوردي للحدود التركية وادعائه القيام بعمليات إرهابية عبر أجندة مجنّدة من قبله لتمارس دور الذئب مع الحمل، وعجباً كم تشبه حوادث الحاضر الماضي، عندما قامت الحكومة البريطانية باحتلال الصين في حرب الأفيون الثانية وكانت حجتها بأن نائب ملك الصين في جوانغ شوقام بتفتيش سفينة تحمل العلم البريطاني واعتقل بحاريها وأنزل العلم وعلى إثرها قُتل مبشر فرنسي على متنها، والتي كانت مؤامرة محاكة باحكام من الحكومة البريطانية والفرنسية لتكون ذريعة لشن حرب جديدة على الصين ونهب خيراتها.
وبالمقابل، لن تكون عفرين لقمة سائغة فالكورد سيمارسون أسلوب القتال الفابيانومناورة الخصم حتى تخر قواه، وسيثورون بقضهم وقضيضهم و لن تتغلب قوة البغض بين الطبقات على قوة العدواة بين القوميات، وستسوخ أقدام أردوغان في الوحل أمام أشجار عفرين الخضراء كما غطست أرجله في الأدغال الإسلاموية، ولعل من نافلة القول الاستشهادبتعليق رئيس الوزراء الهندي الراحل جواهر لال نهرو على ممارسات أتاتورك التعسفية بحق الشعب الكوردي ” قضى مصطفى كمال على الأكراد بلا رحمة، وأقام محاكم الإستقلال الخاصة لمحاكمتهم بالألوف وأعدم الزعيمان الكرديان الشيخ سعيد والدكتور فؤاد وغيرهما الذين ماتوا وأمنية استقلال كردستان لا تفارقهم، وهكذا نرى أن الأتراك الذين حاربوا مؤخرا للحصول على حريتهم مارسوا الإستبداد ضد الأكراد لمطالبتهم بحريتهم، فما أغرب تحول القومية من دفاع عن الوطن إلى هجوم لسلب حرية الغير، وثار الأكراد بعدها ثانية وسيثورون إذ كيف تخمد ثورة قوم يكافحون من أجل الحرية وهم مستعدون لدفع الثمن”.