د/ حمادة إسماعيل شعبان
تعتبر تركيا هي البوابة الأولى للاجئين الذين يبحثون عن رحلة الأمل إلى أوروبا، حيث يأتون أولاً إلى تركيا، ومنها عن طريق البحر إلى اليونان، ثم إلى دول أوروبية أخرى عن طريق البحر أيضَا. وفي هذه الرحلة الشاقة يواجهون الموت وجهًا لوجه، فمنهم من ينجو ويحقق أمله، ومنهم من يُقبض عليه ويُرسل إلى أي دولة تحددها له المفوضية العليا للاجئين، ومنهم من يكون على موعد مع الموت الذي فر منه في بلاده ليلاقيه في البحر، وبذلك يصبح رقمًا من الأرقام التي يتعامل معها البعض بعطف وتأثر فينقم على ضمير العالم الذي ترك هؤلاء عرضة للموت في عرض البحر، والبعض الآخر يزايد عليهم ويتخذ من قضيتهم وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية زائلة لا قيمة لها أمام قيمة حق الإنسان في الحياة…يحكي (بكر قالفه) الشاب السوري البالغ من العمر ستة عشر عامًا، والذي كان يعيش في مدينة حماه السورية عن قصته هو وأسرته مع اللجوء، ويقول بإنهم كانوا يعيشون في بلادهم حياة سعيدة قبل الحرب، وكان يذهب إلى المدرسة مع أقرانه، لكن المتغيرات الصعبة التي حدثت في بلادهم أجبرتهم على تركها، والخروج في رحلة أمل تنجيهم من الموت، وتضمن لهم العيش الكريم، والحياة الهادئة،لذلك قرر ابوه أن يتركوا سوريا ويذهبوا إلى ألمانيا. وبالفعل خرجوا من سوريا إلى تركيا ومنها إلى اليونان في رحلة بحرية رأوا فيها الموت بعيونهم، وشعروا بالخوف منه يملأ قلوبهم. ثم ذهبوا إلى كرواتيا، ومن كرواتيا إلى صربيا، وهناك قُبض على أخيه وأُجبِرَ على الإقامة في المجر، لكنه استطاع بعد ذلك في رحلة موت أخرى تحقيق هدفه وهرب إلى ألمانيا، أما هو (بكر قالفه) فقد أجبرته المفوضية العليا على الإقامة في مقدونيا، ولا يعرف ماذا يفعل. لكنه بالرغم من ذلك أفضل حظ بكثير من غيره من الاجئين، إذ استطاع في هذه الدولة البلقانية أن يجد عملًا ويبدأ حياة جديدة.
وهذه هي حال معظم الاجئين في العالم، منهم من يحقق أمله، ومنهم من يحقق طموحًا أقل مما كان يعتقده، ومنهم من يُقبض عليه، ومنهم من يلاقي حتفه. ونحن في هذا التقرير سنركز القول على الصنف الأخير الذي نحن نجمع مادته واجهنا صورًا يندى لرؤيتها الجبين، ويأسى لبشاعتها الضمير، ويصيح من فظاعتها اللسان مناديًا على من بيدهم الأمر في هذا العالم أن يتحلوا بصفات الإنسانية، ويبذلوا كل ما في وسعهم لإيقاف مسلسل الموت الذي يواجهه هؤلاء اللاجئون كل يوم.
ونركز في تقريرنا على حوادث الغرق التي وقعت في بحر إيجه أحد أفرع البحر المتوسط، والذي كنا قبل ذلك لا نسمع اسمه إلا في خلاف على الحدود البحرية والمياه الإقليمية بين تركيا واليونان، أما الآن فأصبح رمزًا للغرق والموت الذي لا يفرق بين كبار أو أطفال، ولقد رأينا ورأى العالم كله هذا البحر في أبشع صورةله وهو يلقي على شاطئه جثمان الطفل السوري (إيلان كردي)ذي الثلاث سنوات، والذي عُثر عليه ميتًا على شواطئه.صورة هذا الطفل غير بعيدة عن أذهاننا، ولقد أصابت بشاعتهاالعالم العربي والإسلامي بالإحباط وخيبة الأمل، وجعلتهم يتساءلون بين بعضهم بعض وفي وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي عن القيم الإنسانية والإخلاقية، وأين مكانهما اليوم أمام هذه الصورة التي جعلت الجميع يدرك أن قضية اللاجئين ليست في اختيار تسمية صحيحة لهم، وليست قضية قانونية، أومسألة سياسية تحتاج إلى توازنات دولية، بل هى في المقام الأول قضية إنسانية تحتاج لمقاييس ومعايير أخلاقية.
ولم تكن وفاة الطفل (إيلان) وأسرته هى الأولى، فقد سبقها الكثير من حوادث غرق النازحين، وبالطبع ومن خلال الواقع لم تكن هى الأخيرة، بل تلاها الكثير من الحوادث المشابهة.ففي الخامس عشر من سبتمبر 1915م، صرحت المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة أن عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم في البحر المتوسط أثناء ذهابهم إلى أوروبا عبر طرق غير شرعية بلغ ألفين وثمانمائة شخص. وكان نصيب بحر إيجه 1000 لاجئ لقوا مصرعهم في مياهه أثناء نزوحهم إلى أوروبا. وفي الخامس عشر من يناير 2016م، لقي ثلاثة أطفال مصرعهم نتيجة لغرق قارب بلاستيكي في بحر إيجه، كان يحمل على متنه ثلاثة وعشرين لاجئًا قرب جزيرة (أشك). وكان إجمالي من فقد حياته في بحر إيجه في الثلاثة شهور الأولى من هذا العام حوالي 400 شخص.وفي تصريح لـ “وليم سبندلر” المتحدث باسم المفوضية العليا للاجئين قال فيه إن عدد اللاجئين الذين لقوا حتفهم في البحر المتوسط عام 2016 تجاوز الثلاثة آلاف وثمانمائة شخص، لذلك أطلق على عام 2016 عام الموت. وهذا العدد كبير جدا خصوصًا إذا عرفنا أن من استطاع الوصول إلى أوروبا عام 2016 هم فقط 327 ألفا و800 شخص، في حين إنه وصل إلى أوروبا عام 2015م مليون و15 ألفا، و78 لاجئا، فقد حياته منهم 3771 شخصا. وفي التاسع والعشرين من مايو 2016م، صرح “وليم سبندلر” أيضًا بغرق سبعمائة لاجئ في أسبوع واحد في البحر المتوسط. وقال إن هذا شيء مقلق للغاية. وفي العشرين من ديسمبر 2016م، فقد أربعة أطفال وسيدة حياتهم نتيجة غرق قارب يحمل على متنه ثلاثة عشر لاجئًا، وذلك في جزيرة (أيوقليق) في مدينة باليق أسير التركية. كم تم في هذا الحادث إنقاذ ثمانية أشخاص بينهم طفل في الثالثة من عمره، وكان في حالة خطيرة عند إنقاذه. ومن الملفت للنظر أن سبعة من بين هؤلاء الثلاثة عشر كان قد تم القبض عليهم قبل ذلك أثناء محاولتهم الهروب إلى أوروبا عبر طريق بحر إيجه.
أما أحدث حوادث الغرق في بحر إيجه فوقعحادثالإثنين 24 إبريل 2017م، حيث غرق قارب يحمل على متنه لاجئين في جزيرة (ميدلي)، وفقد ستة عشر شخصًا حياتهم في هذا الحادث، بينهم نساء وأطفال.
هذا بخلاف الأعداد الهائلة التي كانت على مقربة من الموت وتم انقاذها، فبعد حادث الطفل (إيلان كردي) صرح مسؤول تركي بأن القوات التركية أنقذت حياة ما يزيد عن خمسين ألف لاجئ كانوا يحاولون الهروب إلى أوروبا عبر بحر إيجه.
بعد هذا السرد يرى كاتب المقال أن الخاسر الأكبر في قضية اللاجئين ليس السوريين، بل الضمير الإنساني الذي بمشاهدته هذه الحوادث كل يوم يتعود على القسوة، ويقل تعاطفه مع هذه القضية يومًا بعد يوم، وإن كان قد عانى وتأثر لأول حادثة شاهدها يومًا أو يومين فإنه الآن لم يعد يتأثر لمثل هذه الحوادث إلا دقائق معدودة على الأكثر، بل ربما لم يعد يتأثر لها على الإطلاق، بل قد يشاهدها وهو يتناول طعامه وشرابه، من أجل ذلك يناشد كاتب المقالقادة دول العالم أجمع بل ويرجوهم أن يرحموا إنسانيتنا، وينحوا المصالح السياسية جانبًا في التعامل مع قضية اللاجئين، وأن يغلبوا البعد الإنساني في التعامل معهم، وتوفير ملاذ آمن لهم، والحفاظ على سلامتهم وكرامتهم، فهذا هو السبيل الوحيد للحفاظ على ما تبقى لدينا من إنسانية. كما يناشد الكاتب منظمة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي كله لإيجاد حل للقضية السورية التي يكمن في حلها حل مشكلة الجزء الأكبر من اللاجئين في العالم.