(الزمان التركية)- استغل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كل شيء للترويج لرؤيته وتصوره لحكم تركيا وتاريخها وعلاقتها بجوارها، ومن أهم ما استغله السينما والمسلسلات والأفلام.. تحدث عن هذا الكاتب أمين مسعود، في مقال له بموقع”العرب” بعنوان”‘من أرطغرل’ إلى ‘الريس’ هوليوود تركيا في خدمة الأردوغانية” حيث يقول:
باتت هوليود تركيا أو ما يطلق عليه “يشيل تشام” جزءا من الأوركسترا الدعائية الساعية إلى تكريس زعامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وإلحاقه بسلالة السلاطين والملوك والباكوات وهو ما يجعل مقولة الفيلسوف الفرنسي روجيس دوبري بأنّ الفيديولوجيا بمعنى السينما، انتصرت على الأيديولوجيا بمعنى الأفكار والأطروحات الكبرى، لم تعد ذات مقدرة تفسيرية كبرى.
تطويع الأعمال الدرامية الفنية لخدمة أيديولوجيات الحزب الحاكم وصورة رئيس تركيا ليس في العمق سوى ضرب للنموذج التعددي والديمقراطي في البلاد، ذلك أنّ صناعة الزعامات تفضي في المحصلة إلى صناعة الاستبداد وتطويع الشعب إلى رغبات الفاعل السياسي وفقا لمقولة القائد التاريخي والاستثنائيّ.
وفي سياق مماثل للسياق التركي، تصبح روافد الفنّ الرابع والسابع نأيا عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والاستراتيجية التي ترزح تحتها تركيا بقيادة أردوغان، نحو استدرار “واقع متخيّل” يجانب الحقيقة ويركّز على أسطرة الماضي.
هنا بالضبط يكمن الفرق بين صناعة سينمائية وطنيّة ذات استقلالية إدارية وتنفيذية ومالية وجمالية وبين صناعة سينمائية تابعة وخاضعة للفاعل الرسميّ تعمل على تأبيد الفرد وتنزيه مشروعه وتقديس أيديولوجيته.
وهو ما أشارت إليه الفنانة التركية آيتشا إنجه حيث لاحظت منذ العام 2010 وجود نهج توحيدي يتناسب مع تصورات الحزب والحكومة التي باتت تقرّر بشكل تعسّفي الأعمال المقبولة للعرض وغير المقبولة للعرض الأمر الذي أصاب الفنانين الأتراك بالرقابة الذاتيّة.
وفي مهرجان البرتقالة الذهبية السينمائي الدولي بدورته لسنة 2014 بمدينة أنطاليا التركية استبعدت إدارة المهرجان على سبيل المثال من المسابقة فيلما وثائقيا حول احتجاجات “غيزي بارك” بحجة أن الفيلم يسيء لأردوغان، ونتيجة لذلك سحب العديد من صانعي الأفلام الوثائقية مشاركاتهم ولم يتم إجراء المسابقة في دورتها تلك.
وفي مقابل عصا الاستبعاد والرقابة فتحت حكومة أردوغان المجال رحبا أمام المخرجين والسينمائيين من خلفيات ومرجعيات إسلامية للتعبير عن أفكار ومقاربات الفاعل الرسمي من خلال السينما.
حيث تقر أطراف متابعة للمشهد الفني التركي بأنّ حزب العدالة والتنمية صنع سينما موازية للسينما التقليدية تمكّن بمقتضاها من إسقاط رؤاه السياسية والأيديولوجية والإقليمية على الإنتاج الفني.
لم يكن اختيار الممثل التركي إنجين ألتان دوزياتان لأداء دور أرطغرل في مسلسل قيامة أرطغرل، الذي عرض في قناة خاصة قريبة من الإخوان المسلمين ويعرض حاليا على القناة الوطنية القطرية، من باب الصدفة الدرامية.
فعلاوة على اسم أرطغرل، والد عثمان مؤسس الخلافة العثمانية على أنقاض الخلافة العباسية، الذي يقترب كثيرا نطقا من اسم أردوغان، فإنّ أوجه الشبه المرفولوجي بين الممثل وأردوغان تحيل إلى رسائل سياسية مبطنة ليس أقلها أنّ أردوغان الحالي هو استدرار تاريخي وتماثل سياسي مع أرطغرل.
فلئن بنا أرطغرل خلافة آل عثمان، فإنّ أردوغان سيكون أساس الخلافة العثمانية الثانية، حتّى وإن تغيرت في المفاهيم وفي أدوات الحكم وتخفت وراء مقولات المدنية والحداثة والتناسق مع العصر والمصر.
هي مهمّة استمالة الذاكرة وصناعة السرديات المخاتلة والمخادعة عن دولة الخلافة، تؤمنّها هوليوود تركيا لأردوغان سعيا لصناعة الشموليات الفرديّة وربحا لأموال طائلة من متفرجين أتراك وعرب يحملهم حنين الذاكرة المثقوبة والأوطان المسلوبة إلى خرافة الخلافة وتصفية لميراث الدولة العلمانية الأتاتوركيّة.
الملاحظ أنّ عملية استحضار الماضي سينمائيا تكون بطريقة إسقاطية على الواقع، حيث يتقاطع أردوغان مع البطل التاريخي، ميسما وأفكارا، وتصبح الدولة العلمانية العميقة الرديف المقابل للبطل في قصف “فني” لعقل المشاهد يشحن كافّة الأوصاف السلبية في خانة العلمانية الأتاتوركية والمعارضة التي تمثلها ويشحذ في المقابل كافة مناقب الزعامة في سلّة أردوغان وحزبه.
ولئن قصفت هوليوود أردوغان بهذا المسار التاريخ والذاكرة الجماعية، فإنها أيضا تقصف مبادئ التعددية والديمقراطية والعيش المشترك إذ تستحيل الثنائية التاريخانية ونعني بها “الإيمان والكفر” و“الحق والباطل” و“النور والديجور” محرّك تمايز بين الفاعلين السياسيين والثقافيين الأتراك، على الأقل في ذهنية المتابع والمشاهد.
ولئن اجتبت بعض الأعمال الفنية على غرار أرطغرل ومحمد الفاتح التلميح في الدعاية، فإنّ فيلم “الريس”، الرئيس أو الزعيم باللغة التركية، اختار الانخراط في منظومة الترويج لأردوغان ولمناقبه مركزا على صفة الاجتهاد الشخصي و”الجهاد” السياسي ضدّ خصومه.
الفيلم عرض في قاعات السينما التركية خلال الاستفتاء الدستوري الأخير الأمر الذي أثار حفيظة الكثير من المنظمات الحقوقية في الداخل أو الخارج، ذلك أنّ الفيلم يمثّل دعاية واضحة وصريحة للرئيس أردوغان.
المفارقة الأغرب أنّ نموذج فيلم الريس بدأ ينسحب على مجموعة من الأفلام الأخرى، لا تزال في طور الإعداد والتصوير، والتي تعيد سرد حادثة التمرد العسكري في 15 يوليو 2016 وفق رواية الطرف الغالب في مكاسرة الصيف الفارط.
وهي أفلام تؤكّد كافة المؤشرات والدلائل والقرائن على أنّها ستستبطن الرواية الحاكمة في ثنائية الحق والباطل، وستمرّر هذه القطبية على كافة ضحايا الانقلاب الأردوغاني الناعم والذي حصد إلى اليوم عشرات الآلاف من الصحافيين والمفكرين والقضاة والمحامين والجامعيين والسياسيين والموظفين في الدوائر الحكومية والخاصة.
من الواضح أنّ تركيا التي تعرف الغوبلزية السينمائية، ستعرف بالضرورة والحتمية إنتاجا سينمائيا موازيا انطلاقا من عواصم الإقليم، وقد يكون رديفا أيديولوجيا متناقضا ولكنّه في المحصلة سيفرض على الجميع مراجعة المضامين الفنية خلال الحقبة الأردوغانية والتأسيس على ثلاثية “الجمال الفني، السرد الواقعي والاستقلال التنظيمي”.
السينما والدراما عموما هي القوة الناعمة القادرة على تغيير المسلكيات وتحوير التمثلات، وهي القوة التي وصفها الزعيم الهندي جواهر لال نهرو بأنّها القوة المؤهلة لاستبدال الثقافات بصمت ودون صخب، حيث اعتبر في حوار صحافي عام 1958 أجراه معه الراحل محمد حسنين هيكل أنّ الهند محاصرة أميركيا بين سلطتين؛ واحدة شريرة غامضة تستعمل للتطويع والإخضاع (وكالة المخابرات الأميركية) والثانية براقة وخداعة تستعمل للغواية والإغراء وهي هوليوود (يقصد هنا صناعة السينما).
ولم يكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الفاعل السياسي الأوّل الذي التجأ إلى الصناعة الثقافية ممثلة في السينما للترويج للأيديولوجيا الصامتة لحزب العدالة والتنمية، فما لا يستطيع الزعيم السياسي الإصداع به بحكم إكراهات الواقع السياسي التركي واليقظة المدنية في بلد أتاتورك، بالإمكان أن ينقل تصريحا أو تلميحا في مضامين الصورة والصوت، حيث تتكلّم الشخصيات وكالة وأردوغان أصالة.
واستعانت إيران بالمدفعية الناعمة الثقيلة للترويج لمعتقداتها السياسية والدينية ولتقديم سردياتها التاريخية في الكثير من الأحداث سواء منها تلك المتعلقة بحياة الرسول صلى الله عليه وسلّم والصحابة أو تلك المرتبطة بمشهدية 1979.