بقلم: محمد عبيد الله
برلين (زمان التركية) – اختتمنا مقالنا السابق الذي حمل عنوان “لن يحصد أردوغان من الشوك عنبًا! (2)” من سلسلة مقالات بدأنا ننشرها تحت العنوان العام “أسباب الخلاف بين أردوغان وكولن”، قائلاً: “والآن لا بد أن نطوي صفحات الزمان لنعود إلى “نقطة الصفر”، ونحاول تلمّس بذور الأحداث التي أثمرت هذه الثمرات الحنظلية المرّة في نهاية المطاف”.
وها نحن نبدأ – بإذن الله وعنايته – مشوارًا طويلاً نحاول خلاله الاطلاع على جذور الخلاف بين حركة الخدمة التي تستقي فكر فتح الله كولن وحزب العدالة والتنمية الذي يقوده رجب طيب أردوغان، حتى نكون على علم وبصيرة من أمرنا قبل أن نحكم على الطرفين. أرى من المناسب أن نشرع في الإدلاء بدلونا في هذا الموضوع الشائك من انقلاب 1997 الأبيض الذي يشكل البذرة التي أثمرت ثمرات اللحظة الراهنة. لكن من الأحسن أن نبدأ من التطورات الأخيرة ثم نعود إلى الخلفية التارخية لذلك الانقلاب الذي يعتبر الأكبر والأثقل والأطول زمناً من الانقلابات السابقة من حيث نتائجه وتداعياته الممتدة إلى اليوم.
لقد شهدت تركيا في نهاية العام الماضي (2017) تطورين خطيرين سيتركان بصماتهما على الأيام القادمة، تجلى أحدهما في الإفراج عن مدير أمن إسطنبول السابق “حسين تشابقين” في 19 من ديسمبر الجاري (2017)، بعد اعتقاله بتهمة “الصلة بحركة الخدمة” عقب الانقلاب الفاشل في 15 تموز / يوليو 2016، والآخر في مطالبة النيابة العامة بعد يومين فقط من هذا القرار بإنزال عقوبة الحبس المؤبد على 60 جنرالاً وضباطًا عسكريًّا يخضعون للمحاكمة في إطار قضية “الانقلاب الأبيض” الذي شهدته البلاد في 28 فبراير/شباط 1997، في مقدمتهم رئيس الأركان الأسبق الجنرال “إسماعيل حقي كارادايي” والجنرالان اللذان لعبا دورًا مهما في هذا الانقلاب “تشافيك بير” و”تشاتين دوغان”.
الإفراج بكفالة شخصية مثيرة!
والباعث على الحيرة والدهشة أن “محمد آغار”، وزير الداخلية الأسبق في عهد رئيس الوزراء الأسبق “تانسو تشيلّر”، والذي تورط اسمه في حادث “سوسورلوك” المروري الشهير الذي وقع عام 1996، وكشف الكثير من أبعاد وأسرار ما يسمى في تركيا بـ”الدولة العميقة”، والذي يُعتبر وزير الداخلية الحالي “سليمان سويلو” من “شيعته”، كان أحد الشهود في المحكمة التي نظرت قضية مدير أمن إسطنبول، وأدلى بشهادته لصالحه، وبرأ ساحته من تهمة الصلة المزعومة بحركة الخدمة، مع إبقاء الباب مفتوحًا للعودة إلى اتهامه مجددًا بالإشارة إلى “بعض الأخطاء التي ارتكبها تشابقين في هذا الصدد”، مما أدى بالمراقبين إلى التعقيب على قرار الإفراج عنه “قيد المحاكمة” بأنه أخلي سبيله بـ”كفالة محمد آغار”.
رسالة من “أرجنكون” إلى أردوغان
واعتبر بعض المحللين خطوة إخلاء سبيل مدير أمن إسطنبول “رسالة” موجهة إلى الرئيس أردوغان من قبل تنظيم “أرجنكون”، الذي يعتبر “الجزء الظاهر” من جسم هذه الدولة العميقة، التي تظهر بأشكال شتى بحسب الظروف الزمانية والمكانية، تحذره من الخروج عن “الإطار المرسوم له” أو تهدده بأن الدور جاء عليه، بعد القضاء على “الكوادر الوطنية الديمقراطية” تمامًا، تحت ذريعة مكافحة “حركة الخدمة”، بالاستفادة من النظرة السلبية الدولية المتفاقمة يوميًّا إلى أردوغان.
وتفصيل ذلك أن حسين تشابقين لم يكن مجرد مدير أمن عاديّ، وإنما كان رئيس جهاز الأمن الذي اعتقل رجل الأعمال التركي الإيراني رضا ضراب، الذي اعترف للمحكمة الأمريكية في قضية “خرق العقوبات على إيران” المنظورة حاليا في أمريكا باتفاقه مع أردوغان للاحتيال على العقوبات الدولية على إيران، بالإضافة إلى اعتقاله أبناء وزراءه السابقين في إطار قضية الفساد والرشوة عام 2013. بمعنى أن تنظيم أرجنكون يلوّح لأردوغان بورقة ملفات الفساد وأمثالها التي يحوزها بكثرة، وبأنه يمكنه أن يوظِّف اعترافات رضا ضراب باعتباره “شهد شاهد من أهلها” في إنهاء حكمه.
أردوغان يكشّر عن أنيابه!
إلا أن أردوغان لم يقف مكتوف اليدين إزاء تهديدات أرجنكون، وإنما كشّر عن أنيابه عندما أمر النيابةَ العامة بالمطالبة بعقوبة الحبس المؤبد لستين جنرالاً وضابطًا مرتبطين مع أرجنكون ويخضعون للمحاكمة في إطار قضية انقلاب 28 شباط “الناعم”، بعد أقل من أسبوع من قرار الإفراج عن مدير أمن إسطنبول. ووجدنا فرح إعلام أردوغان ونشوته بهذا القرار من خلال العناوين التي وضعها في صفحاته الأولى، حيث وضعت صحيفة “صباح” المملوكة لعائلة أردوغان مانشيت: “ليس انقلابًا ناعمًا بل انقلاب حقيقي: طلب الحبس المؤبد لستين جنرالاً انقلابيًّا”، فيما عنونت صحيفة “ستار”، التي تعتبر المتحدثة باسم الحكومة: “تحجيم وتأديب للجنرالات الانقلابيين”، وكذلك وضعت كل الصحف الأخرى الداعمة لأردوغان عناوين مشابهة.
مواقف متباينة بين إعلام أردوغان وأرجنكون
أما إعلام أرجنكون فحاول ربط قضية “الجنرالات الانقلابيين” مع حركة الخدمة، كعادته، عن طريق التذكير بأن المدعي العام الذي أعد مذكرة الادعاء الخاصة بهذه القضية قبل 5 سنوات هو “مصطفي بلجيلي” القابع حاليًّا في السجن بتهمة “الانتماء إلى حركة الخدمة”. فصحيفة “آيدينليك”، التي تعتبر المتحدث باسم إحدى المجموعات المؤثرة في أرجنكون، صدرت بعنوان “تنظيم فتح الله كولن أعد مذكرة الادعاء بينما قدمها المدعي العام للمحكمة”، وانتقدت موقف إعلام أردوغان بعنوانها الفرعي قائلة: “انبعاث روح تنظيم فتح الله كولن لدى إعلام السلطة!”، بينما وضعت صحيفة “سوزجو” المعروفة بجذورها العلمانية عنوان “طلب الحبس المؤبد لستين جنرالاً بناء على أدلة قدمها تنظيم فتح الله كولن…”، وزعمت أن المدعي العام زكريا أوز، “المنتمي إلى حركة الخدمة”، الذي أشعل فتيل قضية أرجنكون، من يقف وراء هذه القضية أيضًا، وأن أدلة الإدانة مزورة غير صحيحة.
تصدع في التحالف بين أردوغان وبرينتشاك
أما زعيم حزب الوطن “دوغو برينتشاك”، الذي يتبنى الفكر العلماني اليساري اللنيني، ويقدِّم نفسه كممثّل “المعسكر الأوراسي” في تنظيم أرجنكون، والذي خرج من السجن بعد تحالفه مع أردوغان عقب اعتقالٍ دام ستّ سنوات في إطار قضية أرجنكون، فكتب في صحيفة آيدينليك: “بعد النجاح في التصدي لمحاولة الانقلاب في 15 تموز/يوليو 2016، عادت تركيا إلى برنامج وتيرة 28 شباط 1997 (الانقلابية)، بعد أن توقف مدة معينة من الزمن”، في إشارة منه إلى البرنامج الذي وضعه المجلس العسكري الانقلابي في 1997 وزعم أنه سيستمر ألف عام كامل.
هذه التصريحات تكشف الاختلاف في وجهات النظر بين أردوغان المطالِبِ بالحبس المؤبد للجنرالات “الانقلابيين” وبرينتشاك المطالب باستمرار برنامج 28 شباط “الانقلابي” حتى الأبد.كما أن كلمة “البرنامج” تعيد للأذهان التصريحات التي سبق أن أدلى بها برينتشاك أكثر من مرة في أوقات مختلفة لوسائل الإعلام، والتي قال فيها: “نحن لم نطلب الاتفاق مع أردوغان ولم نتبنَّ برنامجه، وإنما هو من أتى إلينا وتبنى برنامجنا. فنحن من وضعنا مشروع القضاء على حركة الخدمة وليس أردوغان”.
كما يبدو أن عناوين إعلام كل من أردوغان وأرجنكون تدل على أن الطرفين على دراية جيدة برسالات التهديد المتبادلة بينهما. والواقع أن عناوين صحف أردوغان تتناقض مع مزاعمها الذاهبة إلى أن قضايا “باليوز/المطرقة” و”أرجنكون” و”جيتام” الانقلابية من تدبير حركة الخدمة، وأدلتُها مزورة، بهدف إقناع قاعدتهم الشعبية بأن تحقيقات الفساد والرشوة عام 2013 كانت مؤامرة نصبتها حركة الخدمة للإطاحة بالحكومة، بهدف إغلاق هذه التحقيقات، إلا أن مناورات أردوغان المتناقضة لا تزال تجد آذانًا صاغية لها من أنصاره على الأقل.
خطوة خطيرة نحو حرب أهلية
بعد ثلاثة أيام من طلب الحبس المؤبد للجنرالات الانقلابيين، اتخذ أردوغان في 24 ديسمبر/كانون الاول 2017 خطوة خطيرة للغاية، وتدل على أن “السيوف استلّت من أغمادها” فعلاً بين تنظيم أرجنكون وجماعة أردوغان. إذ أصدرت الحكومة مرسومًا جديدًا ضمن قانون حالة الطوارئ يحصن المشاركين في “أحداث غير قانونية” ليلة الانقلاب من الملاحقة القضائية. وبموجب المرسوم “فإن الأشخاص الذين شاركوا في صدّ محاولة الانقلاب التي شهدتها البلاد في 2016، والأحداث الإرهابية التالية لها تم تحصينهم تماما دون النظر إلى ما إذا كانوا يحملون صفة رسمية أو لا؛ أو يقومون بوظائفهم أو لا”. وبهذا يكون قد فرض القانون حصانة قضائية على الذين قتلوا 250 مواطنًا ما بين عسكري ومدني في ليلة الانقلاب.
لكن خطورة تلك المادة تكمن في أنها لا تختص بالأحداث التي وقعت ليلة الانقلاب فقط، بل نصت أيضا على حماية المشاركين في “الأحداث المتعاقبة” دون وضع إطار زمني محدد، حيث تتيح بذلك فرصة الإفلات من العقاب تحت مسمي “صدّ الانقلاب” منذ وقوع الانقلاب إلى ما لا نهاية، ودون النظر في صفة المشاركين بهذه الأحداث سواء كانت “رسمية أو غير رسمية؛ أو يقومون بوظائفهم أو لا”، وجميعها تعبيرات فضفاضة، تتيح لمتخذ القرار الحرية في عدم معاقبة أي مرتكب جرم، الأمر الذي دفع كل الأحزاب المعارضة، وشخصيات سياسية قريبة من أردوغان، بينها الرئيس السابق عبد الله جول، إلى دعوة أردوغان لسحب هذا المرسوم، نظرًا لأنه بمثابة “دعوة رسمية لحرب أهلية”.
الخلفية التاريخية لانقلاب 1997 الأبيض:
الخدمة جمعت حول طاولتها كل الأيدلوجيات
شهدت تركيا في 28 فبراير/شباط من عام 1997 انقلابًا سمي “انقلاب ما بعد الحداثة”، في ظل الحكومة الائتلافية بين كل من حزبي الرفاه الإسلامي بقيادة الراحل “نجم الدين أربكان” والطريق القويم برئاسة السيدة “تانسو تشيلّر”. ومع أن الانقلاب استهدف الحكومة المدنية في الظاهر، غير أن المجتمع المدني بكل أطيافه كان قد تضرر أكثر من الحكومة. ولعل أكبر ضرر ألحقه هذا الانقلاب هو تدميره لتلك “البيئة السلمية الحوارية” التي تشكلت في تركيا في التسعينات بفضل إسهامات كل النخب والمثقفين والسياسيين المنتمين إلى شتى الأفكار والأيدولوجيات والمؤسسات الفكرية ومنظمات المجتمع المدني، بينها حركة الخدمة.. البيئة التي كانت تتمكن فيها “الأقطاب المتضادة” من الاجتماع حول طاولة بحث واحدة لمناقشة قضايا إنسانية واجتماعية وسياسية ووطنية ودينية بكل حرية، ويتصافح فيها الكاتب المثقف العلماني الكمالي البحت “توكتاميش آتيش” مع الكاتب الصحفي الإسلامجي الراديكالي “عبد الرحمن ديليباك”، وقادة الأحزاب اليمينية مع نظراءهم من الأحزاب اليسارية، والكتاب الأكراد والعرب والأرمن مع زملاءهم الأتراك، وممثلو الدين المسيحي واليهودي مع ممثلي الدين الإسلامي أو العلماء المسلمين، على أساس الاحترام المتبادل وقبول كل طرف موقف الطرف الآخر كما يُعرِّف ويقدم نفسه. وأفضل دليل على ذلك مئادب الإفطار واجتماعات منتدى “آبانط” الشهيرة التي أقامتها حركة الخدمة بالتعاون مع كل الأطراف المذكورة أعلاه، وكان أردوغان وعدد كبير من السياسيين الحاليين من كل الأحزاب البرلمانية من بين من شاركوا في هذه الفعاليات.
الأجواء السلمية أزعجت نظام الوصاية العسكري
لكن نظام الوصاية العسكري القائم على الأقليات بصفة رئيسية، وله داعمون في الجيش والمخابرات والأمن والسلك البيروقراطي والمجال المدني من المجموعات “المارقة” التي لا ترغب الخضوع للدستور والقوانين مثل جميع المواطنين الآخرين، وتريد أن تكون تركيا غرفة صغيرة منغلقة على ذاتها، حتى تتفرد في حكمها وتحتكر مواردها تحت الأرض وفوقها، كان منزعجًا من هذه الأجواء السلمية الحوارية، لأن بقاءه ودوامه كان منوطًا باستمرار حالة الاستقطاب والانقسام في المجتمع التركي بجميع أطيافه وطوائفه. ولذلك قامت مجموعة أو زمرة عسكرية قليلة من حيث العدد، قوية من حيث التأثير والنفوذ، ومعها سند من الأجنحة الأخرى في كل مؤسسات الدولة والحياة المدنية، بانقلاب عسكري ضد الحكومة المنتخبة من أجل إعادة تصميم السياسية والمجتمع معًا، وذلك بذريعة “مكافحة الرجعية”، التي كانت الورقة الرابحة في الانقلابات الثلاثة السابقة أيضًا.
حرب نفسية وضغوط
لكن الذي ميّز هذا الانقلاب عن نظيراته الثلاث السابقة أنه لم يكن انقلابًا عسكريًّا تقليديًّا استُخدمت فيه الأسلحة والدبابات بصورة أساسية، وإنما تمثل في ممارسة “حرب نفسية” و”ضغوط” على الحكومة لإخضاعها لإرادة أصحاب نظام الوصاية وإنشاء مناخ ترويعي في المجتمع، حتى يتمكن المجلس العسكري الانقلابي من تنفيذ مشروعه المعد لألف سنة قادمة، بحسب تعبيره. وهذا الفارِق جعل الرأي العام والباحثين أن يطلقوا على هذا الانقلاب “الانقلاب الأبيض” أو “الانقلاب الناعم” أو “انقلاب ما بعد الحداثة”.
وإذا نظرنا إلى التصريحات التي أدلى بها دورسون تيتشاك “الانقلابي”، رئيس دائرة “الحرب النفسية” في الجيش سابقًا، لصحيفة “حريت” في شهر مارس/آذار من عام 2016، فإنه من السهولة بمكان أن ننتهي إلى أن الهدف الحقيقي من هذا الانقلاب كان تصفية الكوادر “الوطنية الديمقراطية” بالدرجة الأولى. إذ قال دورسون تيتشاك في حواره مع تلك الصحيفة بالحرف الواحد: “الهدف الأساسي من انقلاب 28 شباط 1997 كان الرجعية المقصود بها حركة الخدمة 80%!”، على حد قوله. ولا يغيب عن البال أنه يشرّع الانقلاب بمكافحة “الرجعية”، ويختزل الرجعية في “حركة الخدمة” إجمالاً، ويغلّف هدف القضاء على البيروقراطية الوطنية الديمقراطية المعارضة لنظام الوصاية العسكري بالقضاء على الخدمة فقط، حيث أثرت نتائج هذا الانقلاب على كل البيروقراطيين الذين جمعهم القاسم المشترك “الوطنية والديمقراطية”، ولم تقتصر على المتعاطفين مع الخدمة.
محاولات قديمة لإلصاق الإرهاب بالخدمة
ومن اللافت أن “أحمد دونماز”، الكاتب الصحفي المخضرم في موقع “TR724” الإخباري، يعيد جذور الجهود الرامية إلى إعلان حركة الخدمة تنظيمًا مسلحًا إرهابيًّا، للحصول على ذريعة تصفية الكوادر الوطنية الديمقراطية، من خلال تدبير انقلاب محكوم عليه بالفشل وإلصاق الجريمة بالخدمة، إلى أيام هذا الانقلاب. فيما يلفت أمره أوسلو، الخبير الأمني والكاتب الصحفي، الذي كان يكتب في جريدة “طرف” الليبرالية قبل إغلاقها، الانتباه إلى أن هذا الانقلاب كان يخطط للقضاء على “الفئة المحافظة” التي فتح الراحل طرغوت أوزال أبواب الدولة ومؤسساتها لها خلال فترة شغله منصبي رئيسي الوزراء والجمهورية، بحجة مكافحة “الرجعية” التي تمثلت في حركة الخدمة 80%، بحسب تعبير رئيس دائرة الحرب النفسية.
لكن كانت هناك مشكلة جذرية استمرت سنوات – ولا تزال – ألا وهي العجز عن إلصاق “الرجعية” والعنف” و”الإرهاب” بحركة الخدمة، تمهيدًا لإعلانها حركة إجرامية وإرهابية، من أجل تصفية هذه “الكوادر الوطنية” ذات خلفيات مختلفة، تحت مسمى تصفية الدولة من هذه الحركة. ذلك لأن الخدمة عُرفت منذ نشأتها الأولى بتركيزها على العلم والمعرفة من خلال فتح معاهد التحضير الجامعي والمدارس والجامعات الخاصة في تركيا وكل أنحاء العالم، والتزامها الصارم بمبدإ السلم والحوار، ونبذ العنف بكل أشكاله، مهما كانت الذرائع أو المبررات، وانفتاحها على “الآخر” في الداخل والخارج.
كولن رائد الحوار والتسامح في تركيا والعالم
وكان الأستاذ كولن أطلق بعد عام 1990 حركة رائدة في الحوار والتفاهم بين معتنقي الأديان والأفكار الأخرى اتسمت بالمرونة والبعد عن التعصب والتزمت والتطرف، لتجد خلال مدة قصيرة صداها في تركيا أولاً وفي العالم لاحقًا. ووصلت هذه الحركة إلى ذروتها بالاجتماع الذي عقد عام 1998 بين كولن والبابا في الفاتيكان إثر دعوة البابا لـه. ذلك لأن كولن آمن بأن العالم أصبح بفضل تقدم وسائل الاتصالات الحديثة قرية صغيرة عالمية بحيث لن تحقق أي حركة قائمة على الخصومة والعنف والعداء أي نتيجة إيجابية، ولا بد أن يكون الحوار والإقناع السبيل الأوحد لنشر المعتقدات أو الأفكار. لذلك نراه يؤكد في كل خطاباته ومحاضراته ودروسه أن الإسلام ليس قائماً على الإرهاب، ولا يمكن تجويزه مهما كانت الذرائع والمبررات، بل يعلن أنه “لا يمكن أن يكون المسلم إرهابيًّا، كما لا يمكن أن يكون الإرهابي مسلمًا”. وهذه الرؤية السلمية لكولن صعّبت كثيرًا خطة خصومه لإلصاق تهمة الإرهاب بحركة الخدمة التي تستلهم فكره.
لذلك كان نظام الوصاية العسكري يبحث عن طريق ناجع لإعادة الدولة إلى “الأقليات” أو “الزمرة الحاكة” التي تمثلت بشكل أساسي في القوميات الأجنبية والفئات المعادية للدين، بعد أن خرجت من أيديها بفضل سياسات طرغوت أوزال وعدنان مندريس من قبله. ولهذا العجز اكتفت هذه المجموعة الانقلابية في المؤسسة العسكرية المرتبطة بتنظيم أرجنكون بإجراء انقلاب “محدود” أو “ناعم” فقط انتهى بإسقاط الحكومة الائتلافية في تركيا، وطرد عدد كبير من الموظفين في جهاز الأمن والمؤسسة العسكرية بصفة خاصة بحجة “الرجعية” أو “الانتماء إلى حركة الخدمة”.
وكان العسكريون الانقلابيون تذرعوا بمجموعة دينية تطلق على نفسها “عجزي مندي” وتزعم انتماءها إلى “حركة النور” التي تنحدر منها حركة الخدمة أيضًا، وتلفت الانتباه بمظاهرها الاستفزازية لتنفيذ مخطط الانقلاب. وهذه المجموعة كانت من صنع بؤرةٍ داخل المخابرات الوطنية داعمةٍ لنظام الوصاية، واختفت تماماً بعد الانقلاب، لأنه لم يعد لها حاجة بعد أن أدت دورها! وكان الجنرالات الانقلابيون يؤكدون أنهم أعادوا الدولة إلى جذورها “العلمانية” (أي إلى الأقليات) وأن هذه الفترة ستستمر ألف عام.
العسكر يتهم كولن بالسعي لتأسيس دولة الشريعة
وكان الإعلام الداعم للانقلاب نشر مقاطع فيديو تتضمن مقتطفات من الدروس التي ألقاها الأستاذ كولن في أوقات ومناسبات مختلفة، وأخرجها عن سياقها ليتسنى له اتهام حركة الخدمة بـ”الرجعية” ومحاولة تقويض “العلمانية” عبر اختراق مؤسسات الدولة. وكان كولن ينصح في هذا الدرس لمحبيه من الموظفين العموميين بأن يلتزموا الحيطة والحذر لكي لا يُشعروا أنفسهم على “البؤر المظلمة” التي تسترت في أعماق الدولة ولا تستسيغ وجود “أي شخص له أدنى صلة بالدين” في المؤسسات الرسمية. إلا أن الجناح العسكري الانقلابي الذي كان وضع كل ثقله على السلطة السياسية أثار زوبعة في الفنجان، واستغل نصيحة كولن هذه، عبر الإعلام المتعاون معه، في الاستشهاد على اختراق أجهزة الدولة من قبل حركة الخدمة. وكان الكاتب الصحفي الراحل توكتاميش آتيش الذي لم يكن يشكّ في علمانيته أحد في تركيا من الذين خرجوا معترضين على هذا الاتهام، وأكدوا أن هذه النصيحة إن دلت على شيء فإنها تدل على مدى الضغط الذي كان يمارسه نظام الوصاية على “الفئات المتدينة” أو المحافظة الملتزمة بمتطلبات دينه وأخلاقه، وأشاروا في الوقت ذاته إلى إعلان ويزر العدل الأسبق (1994 – 1995) من حزب الشعب الجمهوري “محمد موغلتاي” على الشاشة التلفزيونية أنه قام بفصل أكثر من 5 آلاف شخص “متدين” من شتى المؤسسات والهيئات الرسمية، بينهم متعاطفون مع حزب الرفاه وحركة الخدمة والجماعات الإسلامية المختلفة، ووظّف مكانهم ممّن ينتمون إلى فكرهم العلماني اليساري المتطرف و”الطائفة العلوية” على وجه الخصوص. وفي مثل هذا السياق، كان كولن وجه المتعاطفين معه بصفة خاصة، والمتدينين بصفة عامة، بأن يتجنبوا إظهار هوياتهم الدينية في المؤسسات الرسمية وإثارة حفيظة الأطراف العلمانية الصارمة حتى لا يتعرضوا للنفي أو الطرد من الوظيفة كما حدث أثناء وتيرة الانقلاب الناعم بدءًا من عام 1997.
“شرذمة قليلة أجنبية اخترقت الدولة وليست الخدمة”
وفي إطار رده على مزاعم اختراق أفراد حركة الخدمة لمؤسسات الدولة، قال كولن بأن تشجيع أي إنسان لأفراد شعبه على دخول بعض مؤسسات بلاده في إطار القانون لا يمكن تسميته بـ”الاختراق”، حيث إن المشجَّعين على دخول هذه المؤسسات هم أفراد الشعب التركي ومواطنو الدولة التركية، والمؤسسات هي مؤسسات هذا الشعب وهذه الدولة. ومن ثم لفت إلى نقطة مهمة بقوله: “إن الاختراق الحقيقي في تركيا جرى فعلاً في فترة معينة على أيدي شرذمة قليلين مِمَّن ليسوا من الأمة التركية. فالذين يتهمون اليوم أبناء الأمة التركية باختراق دولتهم ربما يسعون للتستر على اختراقهم الحقيقي للدولة التركية. ولعل قلقهم نابع من أن أبناء هذه الأمة لاحظوا اختراق هذه المجموعات الأجنبية لمؤسسات دولتهم. فالأتراك لا يخترقون مؤسسات دولتهم، بل الدخول إليها والتوظيف فيها من حقوقهم الطبيعية، فهم يستطيعون أن يدخلوا إلى السلك السياسي والقضائي والجيش والاستخبارات والخارجية في إطار القوانين والمراسيم الخاصة بتلك المؤسسات الرسمية دون أي مانع”.
ونفهم من التصريحات الأخرى لكولن أنه لا ينفي حقوق الأقليات في تركيا أبدًا، ولا يرى بأسًا في توظيف الأجانب في مؤسسات الدولة، بل هو الذي التقى ممثلي القوميات والطوائف والأديان السماوية في تركيا والعالم، ومن ثم قاد الحركة التي تدعو إلى الحوار والتعايش السلمي بينهم، وإنما هو يعترض على عمل بعض هذه الأقليات لصالح الدولة التي تنتمي إليها “عرقيًّا” أو “فكريًّا” على نحو يخالف مصالح الشعب التركي والدولة التركية.
أجاويد “اليساري” يقاوم العسكر ويدافع عن كولن
وعلى الرغم من ضغوط حراس نظام الوصاية والإعلام المتعاون معه على الأستاذ كولن، ومطالبتهم بإغلاق مؤسسات حركة الخدمة التعليمية في الداخل والخارج، أو تسليمها إلى الدولة، وفتْح المدعي العام تحقيقًا في تصريحاته المذكورة، إلا أن زعيم حزب اليسار الديقراطي “بولنت أجاويد” الذي بات رئيس السلطة السياسية بعد ذهاب الحكومة الائتلافية بضغوط عسكرية خلال فترة الانقلاب الأبيض، تدخَّل في الأزمة ودعا إلى معالجة الأمر بهدوء، بدلا من فتح الموضوع للنقاش على المحطات التلفزيونية، كما دافع عن كولن ومؤسسات الخدمة التعليمية بقوله: “مدارس الخدمة تنشر الثقافة التركية حول العالم، وتعرف تركيا بالعالم. هذه المدارس تخضع لإشراف متواصل من السلطات”.
الانقلابيون يحرضون أوزبكستان على حركة الخدمة
وكانت الزمرة الحاكمة العلمانية الصارمة اليسارية المعادية لأدنى مظهر من مظاهر الدين في القطاعين الخاص والعام في وقت واحد حرض حكومة أوزبكستان ضد حركة الخدمة من أجل تضييق الخناق عليها هناك وجميع دول وسط آسيا، مدعيًا أن هذه الحركة كما أنها تخترق مؤسسات الدولة في تركيا من أجل تحويل النظام القائم من “العلماني” إلى “الإسلامي”، كذلك تقوم بحركة الاختراق ذاتها في جميع الجمهوريات التركية المنفصلة عن الاتحاد السفيتي الروسي. غير أن أيًا من تلك الجمهوريات لم تُعِر بالاً لهذه المزاعم سوى دولة أوزبكستان، وعندها تدخل رئيس الحكومة التركية بولند أجاويد أيضًا وقال: “الرئيس الأوزبكستاني لديه مخاوف غير مبررة تتعلق بتركيا. تركيا لا تتدخل في الشؤون الداخلية لأوزبكستان. لا يمكن أن نسمح بالإساءة إلى العلاقات بين البلدين بسبب مخاوف غير ضرورية”. لكن أوزبكستان لم تقتنع بما قال أجاويد وقررت إغلاق عدد من المدارس التابعة لحركة الخدمة.
وقد تزايدت ضغوطات هذه الزمرة الحاكمة وتَواصل تحريضها للجيش على كولن لدرجة أنه أعلن استعداده لتقديم توصية لمن يشرفون على المدارس والجامعات المفتوحة بتشجيع منه في داخل تركيا وخارجها ليسلموها للدولة ويضموها إلى المدارس الرسمية، شريطة الحفاظ على مستوى التعليم العالي المقدم فيها، تفاديًا لمشاكل أكبر، ولكي لا يتحول الانقلاب الناعم إلى انقلاب عسكري دموي يعود بالبلاد إلى سنوات مظلمة عاشتها تركيا سابقًا.
كولن يغادر إلى أمريكا للمعالجة وتهدئة الأوضاع في تركيا
وفي ظل هذه الأجواء الخانقة، ونظرًا لتلقيه دعوة من زملاءه المقيمين في الولايات المتحدة بمعالجة مرضه المتفاقم يومًا بعد يوم، اتخذ كولن قراراً بمغادرة تركيا إلى أمريكا عام 1999، الأمر الذي لعب دورًا في تهدئة الأوضاع في تركيا إلى حد معين. لكن السلطات التركية فتحت دعوى بحقه في 22 أغسطس 2000 بتهمة “تشكيل منظمة إرهابية غير مسلحة”، و”التحريض على هدم الدولة العلمانية لتأسيس دولة الشريعة”، لكن المحكمة قضت بعد 8 سنوات من هذه التهمة بتبرئة ساحته، ثم وافقت المحكمة العليا على القرار باتفاق آراء أعضاءها.
الانقلابيون يعاقبون أجاويد لدعمه كولن
لم يغفر نظام الوصاية لبولنت أجاويد، الذي شغل منصب رئيس الوزراء من 11 يناير 1999 حتى 18 نوفمبر 2002، دفاعه المستميت عن كولن، على الرغم من علمانيته ويساريته الصارمة، لاعتقاده بمعقولية ونافعية أفكار كولن وأنشطته لتركيا والعالم. إذ تبين من خلال قضايا “تنظيم أرجنكون”، التي انطلقت في 2007 ولا تزال مستمرة حتى اليوم، أن العسكريين الانقلابيين أحاطوا أجاويد برجاله، وعملوا على تدهور حالته الصحية من خلال الأدوية التي قدمها له أطباؤه. فقد ورد بين الاتهامات الموجهة إلى “محمد خبرال”، عميد مستشفى جامعة “باشكنت” في العاصمة أنقرة، في إطار قضية أرجنكون، منع معالجة أجاويد، عندما تلقى علاجًا في هذا المستشفى. وفي ظل تدهور حالته الصحية، وتحت وطأة الضغوط السياسية والعسكرية اتخذ أجاويد أخيرًا قرارًا بتقديم موعد الانتخابات النيابية لتجرى في تشرين الثاني/نوفمبر 2002 وينهزم حزبه “اليسار الديمقراطي” أمام حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان، ويعتزل الحياة السياسية حتى وافته المنية في 2006.
وأود أن أذكر هنا، كجملة استطرادية، بأن طرغوت أوزال كان من بين السياسيين الذين قدموا دعمهم علنًا لكولن ومشاريع حركة الخدمة، وقد توفي جراء “التسمّم الغذائي” على أيدي حراس نظام الوصاية، كما كشفت الفحوصات الطبية التي أجريت على رفاته، وذلك عقب زيارة أجراها إلى دول وسط آسيا المنفصلة عن روسيا، وأكد لجميع رؤساء الحكومات الذين التقاهم أنه “متكفل لمدارس الخدمة”. (سنتطرق إلى هذا الموضوع لاحقًا)
وكما يلاحظ مما سبق، فإن الاتهامات التي تسوقها اليوم السلطة السياسية المدنية بقيادة أردوغان ضد حركة الخدمة هي نفس الاتهامات التي كانت تسوقها ضدها قديمًا “الزمرة الحاكمة الأجنبية” في أساسها، والمتمركزة في المؤسسة العسكرية في جملتها، ولا فرق بين تلك القديمة وهذه الحديثة إلا في المسميات والمصطلحات، كالرجعية قديمًا والكيان الموازي حديثًا، بل نرى أن أردوغان نفذ مخططات تلك الزمرة فعلاً عندما أعلن حركة الخدمة إرهابية وأغلق كل مؤسساتها في تركيا وعدد من بعض الدول الأفريقية والعربية.