بقلم .حازم ناظم فاضل
إن نظرية صناعة الحياة فى خلاصتها هي تنبيه لضرورة إمساك الدعاة بمصادر القوة العلمية والمحركات العاطفية والجاذبية الجمالية والتسهيلات المالية . إنها نظرية القدوات، والنقاط الجامعة، والبؤر اللامعة .
وفي الوقت الذي تتجه فيه البشرية نحو صناعة الحياة الإنسانية التي تتجاوز أطر المفاهيم الفكرية الضيقة وتتجاوز الانتماءات المذهبية السياسية والدينية المحدودة عبر تواصل الثقافات الحضارية فيما بينها وامتزاجها وتداخلها الفكري ضمن سياقاتها الثقافية الخلاقة نجد أن قسم من الناس يتخذون موقفاً عدائياً وانهزامياً من الأطراف التي تتشارك في صناعة الأفكار الكونية التي تتفاعل بروح ديناميكية مع ضرورات الواقع وروح العصر ..
ونحن محتاجون فعلاً إلى تربية أناس يعرفون كيف يحيون في سبيل الله أيضاً، لأن ذلك الموت هو لأجل إصلاح الحياة، ومن لا يتقن صناعة الحياة فمن الصعب أن يتقن صناعة الموت، وليس من الرشد أن يموت الخيرون ليتركوا الحياة يعبث بها الأشرار . وعمر المسلم لا يزيده إلا خيراً ..فخيركم من طال عمره وحسن عمله .
وقد ذهب قسم كبير من المتصوفة الى اماتة النفس لغرض تهذيبها وسوقها الى معالي الأمور، وحرمانها من الملذات الدنيوية المباحة .
ويرى الأستاذ النورسي ان احياء النفس مع التزكية اوفق بسر الحكمة من موتها ، فيقول:
اعلم! ان النفس شئ عجيب !.. وكنز آلات لا تعد وموازين لاتحد لدرك جلوات كنوز الاسماء الحسنى إن تزكت.. وكهف حيّات وعقارب وحشرات إن دسَّت وطغت. فالأولى – والله اعلم – بقاؤها لا فناؤها؛ فالبقاء مع التزكية – كما سلكت عليه الصحابة – اوفق بسر الحكمة من موتها الاتم كما سلك عليه معظم الاولياء.(المثنوي للنورسي)
فالدين في الإسلام ليس قضية شخصية أو مجرد رمزية في دائرة محدودة من دوائر الحياة بل يعني: صناعة الحياة ليس للمسلمين فقط بل لكل من يكون مستعداً للسلام والعدل واحترام الحقوق، ويمكن أن نقول ببساطة إنه يعني: البحث عن السعادة والأمن والتكامل الأخلاقي.
ولقد شخص الأستاذ النورسي –قبل أكثر من مائة عام- أولئك الذين يقفون حجر عثرة أمام التطور والتقدم، بقوله:
فيا أيتها القبور المتحركة برجلين اثنتين، أيتها الجنائز الشاخصة! ويا أيها التعساء التاركون لروح الحياتين كلتيهما. وهو الإسلام، انصرفوا من أمام باب الجيل المقبل، لا تقفوا أمامه حجر عثرة، فالقبور تنتظركم. تنحّوا عن الطريق ليأتي الجيل الجديد الذي سيرفع أعلام الحقائق الإسلامية عالياً ويهزها خفاقة تتماوج على وجوه الكون.. (النورسي، صيقل الاسلام)
إن عيون هؤلاء الذين يرتضعون معنا ثدي هذا الزمان في قفاهم تنظر إلى الماضي دوماً، وتصوراتُهم شبيهة بهم معزولة وبلا حقيقة(النورسي، صيقل الإسلام)
وفي عصرنا الحاضر نرى أن منتسبي مدارس الخدمة يتقنون الوصول إلى قلوب الناس بكافة الوسائل!
فالمدرس يصنع الحياة كثيراً، وليس غريباً أن الطبيب تتلمذ على يد المدرس، والمهندس تتلمذ على يد المدرس، والداعية والخبير وكل أصناف المختصين تلقوا من المدرس، ولهذا لا غرابة أن يتكلم أحد الشعراء -وهو الشاعر محمود غنيم – راثياً لحال المدرس، ومعبراً عن واقعه ومشاعره، فيقول:
حنانيك إني قد بليت بصبيةٍ أروح وأغدو كل يوم عليهمُ
صغار نربيهم بملء عقولهم ونبنيهم لكننا نتهدمُ
فمن كان يرثي قلبه لمعذب فأجدر شخص بالرثاء المعلمُ
على كتفيه يبلغ المجد غيره فما هو إلا للتسلق سُلَّمُ
فالمدرس هو الجندي المجهول، وهو المناضل الكبير، والمدرس متى ما كان مخلصاً فهو وريث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام -فهم يعلمون الحكمة ويعلمون الناس ويأمرون بها.(سلمان عودة من مقال: المدرس يصنع الحياة كثيراً).
فالمعلم والمدرس في مدارس الخدمة؛ رمز الإنسان المضحي، ورمزُ نقلِ الفضيلة إلى المجتمع، وناقلُ حركةِ الحوار وقبول الآخر. ولم يحدث في أي عهد من عهود التاريخ أنْ حَمَل المعلمُ مثل هذا التأثير العالمي الشامل، ولم يحدث أنه خاطب كلَّ هذه البلدان المختلفة جغرافياً ولغة وثقافة. وقد أظهرت تجاربه الواسعة هذا الروحَ العالمي والإنساني والروحاني الذي يحمله.( فتح الله كولن جذوره الفكرية، أنس اركنة).
وفي كتابه “صناعة الحياة” ذكر الأستاذ أحمد الراشد أنه: “في أواخر القرن السابع عشر تقريباً دفع أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية بمحام يسمى (هيوستن) إلى مقاطعة من المقاطعات المجاورة للولايات المتحدة، وقال له : إن أمريكا تحتاج إلى تلك المقاطعة ، وليس عندي من مال ولا عتاد ما أمدك به لتأتي إلي بهذه المقاطعة ، فجمع (هيوستن) ثيابه وذهب إلى تلك المقاطعة واستأجر مكتباً للمحاماة، وفي بضع سنين عبر محاوراته ومقالاته في الصحف ومداولاته مع الوجهاء أقنع شعب تلك المقاطعة أن يطالب الإنضمام إلى الولايات المتحدة، وقد حدث المتوقع وتم الاستفتاء ، وضمت تلك الولاية التي سموها بولاية هيوستن امتناناً لجهود ذلك المحامي الذي لم يطلق رصاصة واحدة في سبيل ضم مقاطعة تعادل مساحتها مساحة نصف مساحة فلسطين تقريبا”. فهل من مدكر ؟!!.
من خلال هذا الحدث تعلم قيمة الدعوة الفردية ومدى ما يمكن تحقيقه من خلالها، وأنها يمكن أن تكون من أكثر طرق الدعوة تأثيراً في المجتمع .
فالقلم تحوَّل على يد كولن معلِّماً ومربياً، ولم يشذَّ لحظة عن حقيقة الأستاذ “المعلِّم المربِّي”، يخاطِب الصغار كما يخاطب الكبار، الهمَّة هي ذات الهمَّة، والأبعاد الإيمانية الفكرية هي ذات الأبعاد؛ لكنَّ الذي يتغير هو الأسلوب، واللغة، والألفاظ… فلكلِّ جيل قاموسُه، ولكلِّ عمُر بيانه… والأستاذ فارسٌ في تصريف الفكر إلى الفعل بشتى الوسائل، وهذه ميزة من أبرز ميزات “البراديم كولن”.(محمد باباعمي، البراديم كولن)
والظاهر أن صورة المعلم ومفهومه في ذهنه يتجاوز -بكثير- الصورةَ النمطية المرسومة في أذهاننا. فالمعلم عنده تاريخ. فكأنه يستعين بالمعلم في كتابة التاريخ من جديد. فهو يتحدث عن دور المعلم بدءًا من اليونان القديم إلى حضارة الهند القديمة البوذية، ومن التقاليد اليهودية والمسيحية إلى القرون الوسطى ثم إلى عصر النهضة، ومن حضارتنا إلى المفاهيم الوضعية المعاصرة. وهو يرى أنه لا يمكن علاج مدنية مريضة ولا إقامة التوازن الاجتماعي إلا بكادر تعليمي يملك عُدة العرفان، ونظرة تحليلية وتركيبية بعيدة المدى. ( فتح الله كولن جذوره الفكرية، أنس اركنة).
والمعلم هو الذي يربي طلاباً أكثر إبداعاً في مجالات الحياة المختلفة من خلال تجدده وابتكاره في أداء مهنته، وهو الذي يشجعّهم على المضي قدماً نحو المزيد من الإبداع، وبالتالي فإنّ مهنة التدريس هي المهنة الوحيدة القادرة على بناء المجتمعات الناجحة والمتفهّمة لهذه الحياة ومتطلّباتها، والمواكبة لكلّ ما هو جديد في هذا العالم، وهي المهنة التي تنشئ العلماء والمفكّرين في المجتمعات المختلفة.
يقول الأستاذ “المعلِّم المربِّي” فتح الله كولن :
“المعلم من ولادته حتى وفاته أستاذ كريم يؤثر في الحياة ويشكّلها. وليس هناك أنموذج كريم آخر مثله يحمل راية الإرشاد لأمته في مضمار قَدَرها ويسمو بأخلاقها ويلقنها مشاعر الأبدية. إن تأثير المعلم على الفرد يفوق تأثير الأب والأم أضعافاً مضاعفة. والحقيقة أنه هو الذي يعجن الأب والأم والمجتمع ويشكّله. وكل عجين لم تمسه يد المعلم فهو عجين لا طعم له. هو اللسان واليد التي يستخدمها الله تعالى في رفع الناس ووضعهم. والمجتمع البدوي الذي حاز على معلمه ومرشده انقلب إلى مجتمع عُلوي ملائكي وأصبح هو معلماً للعالم. وبفضل المعلم الجيد ظهر من مقدونيا فاتح من أكبر الفاتحين في العالم. وانتقل الأناضولُ بفضلِ معلمين جيدين إلى عهد من العمران والخير. ولم تكن شخصيات ممتازة في التاريخ مثل السلطان محمد الفاتح الذي أنهى عهداً وأنشأ عهداً، ولا السلطان سليم رمز الانضباط والنظام إلا تلاميذ لمعلمين جيدين”.( M. F. Gülen, Cag ve Nesil, s.110-114)
ومن هنا كان واجب المعلم خطير شاقاً فهو مطالب – فوق واجبه التعليمي – بإزالة الشبه والمفتريات، ومكلف أن يحمي الأذهان الغضة مما يغيم في سمائها من الأباطيل، ويبني صرح الحياة، إذ يتعهد الناشئ بالتربية والصقل والتقويم.
وعندما يرين الظلام الدامس على الآفاق في كل مكان، وتكون الصحف مكممة الأفواه، لا تسطر غير ما يرضي الباطل ويغضب الحق، والألسنة المخلصة معقولة حبيسة، تحاول النطق فلا تستطيع، الأحرار في كل ناحية يلاقون من البلاء والعنت، ما يوهي العزائم ـ ويفت في الأعضاء .
كان المعلم يجد في ميدانه متسعاً فسيحاً لإيضاح الحق وإزهاق الباطل، فهو يتحدث إلى تلاميذه كما يتحدث الوالد إلى أسرته، كاشفاً ما يرتكبه الآثمون من ضروب الخيانة والرشوة والطغيان، وقد يضطر إلى التلميح حينما يخشى المغبة المخفية، ولكنه لا يني عن أداء رسالته المخلصة لوطنه وأمته ودينه..