سادات لاتشينار
كانت تركيا قُدِّمت لسنوات طويلة على أنها دولة نموذجية في العالم الإسلامي والمنطقة، وقد برز دورها في مكافحتها للتطرّف الإسلامي المتصاعد على وجه الخصوص بعد الحرب الباردة، وكثيرا ما وُصفت بأنها “دولة نموذجية” في السياسة الخارجية الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
إن الخصائص التي جعلت تركيا دولة نموذجية في نظر الغرب هي كالتالي:
- كونها عضو في مؤسسات غربية وإمكانية التفاوض معها حول القضايا.
- تبنيها للقيم الغربية والنظام القانوني الغربي على الرغم من أن شعبها مسلم.
- امتلاكها اقتصادا منتجا وحرا بالمقارنة مع الدول الإسلامية الأخرى.
- نجاحها في النأي بنفسها عن الاشتباكات قدر الإمكان طيلة القرن الأخير.
- كون حقوق الإنسان فيها على مستوى متقدم مقارنة مع الدول الإسلامية الأخرى.
- رغبتها وتجربتها في حلّ المشاكل بالتباحث والتفاوض بدلا عن العنف.
- رؤيتها الدينية المتسامحة تجاه الأديان الأخرى والمذاهب المنتشرة في الداخل التركي.
ويمكننا أن نضيف أسباباً أخرى إلى هذه الأسباب، لكن من المؤكد أن تركيا متقدمة على غيرها من الدول الإسلامية من حيث النضج السياسي والتطور الاقتصادي وغيرها من المزايا، وما إن تسلم أوباما زمام الرئاسة الأمريكية حتى لاحظ أن نموذجية تركيا من هذه الناحية، شأنه شأن بوش من قبله، وكانت أول زيارة له فيما وراء البحار إلى تركيا، وكان أوباما يأمل من تركيا الشيئ الكثير كما ورد في خطابه المؤثر الذي ألقاه في مجلس الأمة (البرلمان) التركي، لكننا وصلنا الآن إلى مرحلة تعرَّض فيها الطرفان لخيبة أمل كبيرة.
إن رئيس لجنة العلاقات الخارجية في أمريكا، وهو أحد أهم الشخصيات في الإدارة الأمريكية ريكارد هاس، يلخص هذا الوضع بقوله: “لانزال متحالفين تقنيا وقانونياً، ولكننا نختلف استراتيجيا”.
إذا كان هناك خلاف استراتيجي بين دولتين، فهذا يعني أنهما ليسا حليفين (تركيا وأمريكا) في الحقيقة، وهاس يعرف هذا جيدا، وهذه هي الرسالة التي أراد إيصالها أصلاً، وفي حديثه للصحَفيّة وردة أوزر من صحيفة (حرييت) التركية نوّه بالمشاكل التي تشوب العلاقات من خلال ملاحظات ورسائل دقيقة، إذ قال: “ولأننا لا نستطيع التعاون معكم، فسنتعاون أكثر مع أكراد سوريا والعراق، وسنتفق مع إيران كذلك”. (حرييت، 15/11/2014).
وحين يقول هاس هذا الكلام، فإنه يشير إلى ما يمكن أن تقوم به تركيا لاستعادة مكانتها السابقة لدى الغرب، ويرى أن تركيا بإمكانها أن تصبح “النموذج الثالث” في مواجهة النظام البعثي والإسلاميين الراديكاليين كتنظيم داعش، ولذلك يرى أنه يجب على تركيا أن تجد حلا للمشكلة الكردية، والعلاقة بين الدولة والمواطن ومسألة مكانة الدين في المجتمع.
وفضلا عن هاس، فإن المسؤولين الأمريكيين، وعلى رأسهم باراك أوباما، ما عادوا يصفون تركيا بأنها دولة نموذجية، إذ وصف أوباما مؤخراً إندونيسيا بأنها دولة نموذجية بالنسبة للعالم الإسلامي، وذلك في منتدى التعاون الاقتصادي في آسيا والمحيط الهادي، حيث قال: “إن إندونيسيا تلعب دورا هاما في احترام التعددية واختلاف الأديان، وهي إحدى أكبر الدول الديمقراطية في العالم، وأكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، وأريد أن أشكرها لكل الجهود التي بذلتها من أجل وضع حد للتطرّف”.
هل من المستحسن أو من غير المستحسن أن تكون الدولة نموذجية في نظر أمريكا؟ فهذه مسألة قابلة للنقاش، وعلينا أن نعترف بأن تطورا مشابها لهذا يحدث لدى الاتحاد الأوربي أيضاً، والحقيقة أن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي لم تعد تتأثر بتركيا.
وأحد أسباب ذلك هو تراجع العلاقات مع إسرائيل، واللوبيات اليهودية وإعلامها المؤثّر في أوربا والمتعاطف مع إسرائيل وأمريكا، وهنالك سبب آخر وهو العداء المتصاعد للإسلام والمتزامن مع التطورات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط.
والسبب الثالث هو التباطؤ الملحوظ المتفاقم في الاقتصاد التركي، فقد حققت تركيا نموا اقتصاديا باهرا بين عامي 2002و2008، لكنها بين عامي 2009 و2014 أخذت تحاول الحفاظ على المستوى الذي وصلت إليه، وحتى لو بدت الأزمات وكأنها لم تؤثّر على تركيا بصورة تُذكر فإن الدخل الفردي بقي عند حدود 10 آلاف دولار منذ 5 أو6 سنوات في الناتج المحلي الإجمالي، ويترواح حجم الصادرات التركية ما بين 130 و150 مليار دولار، صحيح أنه حدث انتعاش في صادرات هذا العام، إلا أننا نرى أن ذلك لايكفي لمعدلات الزيادة في النقد الأجنبي، وبعبارة أخرى فإن تباطؤ النمو الاقتصادي الرائع في تركيا بل توقفه يلحق الضرر بجاذبيتها السياسية.
وثمة عامل آخر وهو تحول بوصلة السياسة الخارجية لتركيا من الغرب إلى الشرق وزيادة نبرتها الإسلامية على الصعيد الخطابي، وإن كانت أسباب ذلك لاتتعلق بتركيا فقط، لكن يُنظر إلى تركيا في نهاية المطاف على أنها دولة تبتعد عن الغرب وتزج بنفسها في حروب الشرق الأوسط التي لا تنتهي، الأمر الذي يلغي سمة الدولة النموذج لتركيا بإمكانها الإسهام في عملية السلام الإقليمي والعالمي.
وأخيرا انزعاج أمريكا والاتحاد الأوربي من خطاب الحكومة الذي اشتدت لهجته في العلاقات الخارجية منذ عام 2010، وهذا ما يؤثر بشكل معاكس في صورة تركيا على أنها دولة مسالمة.
هل تركيا تخيف الشرق الأوسط؟
من الغريب أن صورة تركيا بوصفها دولة نموذج أو دولة ملهمة لم تتشوه في الغرب فقط بل في الشرق كذلك، ويُردُّ هذا إلى سببين رئيسيين وهما تدهور العلاقات مع الغرب ودول الربيع العربي.
ومن الغريب أيضًا أن تركيا تستمدّ قوتها في الشرق من قوتها في الغرب، وإن شعوب الشرق الأوسط وآسيا الوسطى التي تطمح إلى أن تصبح بلدانهها مثل تركيا يطلبون ذلك لأنه بالنسبة إليهم يعني أن يكونوا كالدول الغربية.
إن نجاح تركيا في التوفيق بين القيم الغربية والشرقية والقيم الإسلامية والعالمية كان يروق للعرب والباكستانيين، وبعبارة أخرى كلما ازدادت قوة تركيا في الغرب ازدادت قوتها في الشرق أيضًا.
وهناك عامل آخر مهم في تشوه صورة تركيا في العالم الإسلامي في الشرق عموما، وهو الربيع العربي والتدخل التركي السافر في هذه العملية، ففي السنوات الثلاث الأخيرة تدخلت الحكومة التركية كثيرا في الشؤون الداخلية للدول العربية ولاسيما في شؤون مصر وسوريا، وتتصرف في بعض الدول وكأنها طرف داخلي لا قوة خارجية، فحتى مبادرتها إلى توجيه خطابها إلى الشعوب في الدول الإسلامية، فيما يتعلق بالقضايا الخاصة بفلسطين وإسرائيل تُعتبر “خطيرة” حتى في تلك الدول، وإن تصرف تركيا المتمثل في محاولة تغيير النظام في سوريا ومصر بعدما كانت لها علاقات صداقة استمرت سنوات طويلة معهما، بحيث شكلت منظمات سياسية مسلحة وغير مسلحة من أجل تحقيق ذلك، أمر يخيف الدول الأخرى في المنطقة، فبعض الدول كالسعودية والأردن تخشى تدخّل تركيا في شؤونها الداخلية.
وكل ما ذُكر في هذا السياق يتسبّب في النظر إلى تركيا على أنها قوة هدامة تسعى إلى قلب الأوزان في المنطقة.
التكلفة المالية
كما نوهنا من قبل، فإنه من الممكن أن تكون هنالك فوائد أو أضرار في حال أصبحت الدولة نموذجاً، فالمسألة ليست في الدولة النموذجية، كما أن هناك أثماناً عديدة لتصبحَ الدولة مخيفة ومرعبة لمن حولها ولا تستطيعَ الاتفاق مع المجتمع الدولي بالقدر الكافي، فإذا قل أصدقاؤكم ازداد أعداؤكم ومنافسوكم وبدأوا بالتحالف ضدكم، ومثال واحد فقط على ذلك هو الهزيمة التي تعرضت لها تركيا في مجلس الأمن الدولي، كما أن التقارب بين كل من مصر وإسرائيل وقبرص اليونانية واليونان واتخاذها موقفا ضد تركيا أحد تلك الأثمان الباهظة.
أما في المجال الاقتصادي، فمن الممكن أن تغلق الأسواق أمام صادرات تركيا واستثماراتها، ولو لم تكن العلاقات سيئة إلى هذه الدرجة بين تركيا والعراق وسوريا ومصر وغيرها من الدول لربما وصل معدل الصادرات التركية اليوم إلى 200 مليار دولار، وأعتقد جازما أن السياسة التركية يجب أن تتمركز على المصلحة الاقتصادية بالدرجة الأولى، وإلا فالتراجع في المجال الاقتصادي الذي يعدّ من أهمّ عوامل القوة يؤدي إلى ضعف كبير في المجال السياسي.
وخلاصة القول: إنه من الصعوبة بمكان القول بإمكانية استمرار تركيا على الوضع الحالي. لذلك يتعيّن عليها إعادة النظر في سياستها الخارجية وتشكيلها مجدّداً مع الاهتمام بقواعد الاتصال وإدارة الإدراكات والانطباعات بحيث تكون أكثر واقعية وعقلانية.