علي يورطاجول
تعتبر أكبر المشاكل التي تعاني منها السياسة التركية هي عدم وجود بديل مناسب لحزب العدالة
والتنمية في السلطة منذ 12 عاما. فإذا لم تجد هذه المشكلة حلا في الانتخابات العامة التي ستجرى في شهر يونيو/ حزيران المقبل فإن حزب العدالة والتنمية هو الذي سيشكّل السياسة التركية للسنوات الأربع المقبلة مرة أخرى.
كان هذا الوضع مطمئنا كثيرًا بالنسبة للشعب حتى بضع سنوات مضت، ذلك لأن حزب العدالة والتنمية كان يسير بخطى حثيثة في طريق الديمقراطية، وكانت مكانته لدى الاتحاد الأوروبي تزيد قوة. وكان يقود تركيا نحو أن تكون وسيطًا يلجأ إليه الجميع. لكن للأسف فإن الوضع تغير تمامًا، وأصبح أمامنا حزب يدب في مستنقعات الفساد، ويوتر تركيا بأكملها ويقصي فئة مهمة من فئات المجتمع ويسيئ إليها، ويتسبب في انهيار مكانة تركيا على المستوى الدولي. كما تنازَل الحزب عن المشاريع مثل “الدستور المدني”، ودعْم مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتقوية دولة القانون ونشر العدالة الاجتماعية، وأصبح يدعم دستور انقلاب عام 1980 وحاجز الـ10% الحد الأدنى في الانتخابات لتمثيل الأحزاب في البرلمان، وصار يسيطر عليه الخوف وسلطة زعيم حاد الطباع في ظل الفساد الذي تم الكشف عنه منذ أكثر من عام.
لاشك في أن فوزا محتملا لحزب العدالة والتنمية بالانتخابات البرلمانية المقبلة يحمل في طياته التخوف من أن يعود بتركيا، من الجهات كافة، إلى تسعينيات القرن الماضي. غير أن إلقاء نظرة خاطفة على المشهد السياسي ونتائج الانتخابات الأخيرة يعتبر كافيا للتخوف من امكانية فوز الحزب بالانتخابات المقبلة مرة أخرى كبيرة. ولايزال حزب يتمتع بالقدرة على الفوز في الانتخابات، بالرغم من مشكلة الإقناع التي صار يعاني منها، وكذلك انهيار العديد من أعمدة نجاحاته في الانتخابات. وهناك ثلاثة أعمدة مازالت قائمة رغم أنها تضررت كثيرا، ألا وهي: مفاوضات السلام الخاصة بالقضية الكردية، وإدراك “الظلم” الموجَّه لقطاع عريض من الفئة المحافظة، والقضية الاجتماعية.
وإن كان “خطاب الظلم” و”مفاوضات السلام” قد أصبحا وسيلة مؤثرة من أجل النجاح في الانتخابات، فهما ليسا عاملين مؤثرين مثل القضية الاجتماعية التي تشمل المظلومين والأكراد. والموضوع يحتاج إلى بعض الشرح:
كانت القضية الاجتماعية مسألة يتحدث عنها حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، حتى تسعينيات القرن العشرين. ويكفينا أن نلقي نظرة خاطفة على النجاحات الانتخابية التي حققها حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعب الديمقراطي الاجتماعي في الانتخابات المحلية والعامة لنرى أن هذه النجاحات كانت تستند إلى الفئة الكادحة من المجتمع والذين يسكنون في أحياء عشوائية وفقيرة.
ولم يغير نجاح الراحل تورجوت أوزال في الإصلاحات الاقتصادية والبنيوية هذه الحقيقة. وكان حزب الشعب الجمهوري مصدر أمل للقضية الاجتماعية والمسألة الكردية حتى تسعينيات القرن الماضي. وقد حُمّلت حكومة تانسو تشيلر، التي شهد عهدها أكثر حقب التاريخ التركي ظلامًا، وحزب الشعب الجمهوري المسؤولية عن الفساد والجرائم مجهولة الجاني وانهيار دولة القانون وتحول الدولة إلى عصابة، كما فقد الاثنان قوة إقناعهما بشأن القضية الاجتماعية. وكان انهيار حزب الشعب الجمهوري وسطوع نجم حزب الرفاه وجهان لعملة واحدة. ويكفي أن نلقي نظر سريعة على نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة، أي على المناطق التي نجح فيها كل من حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري، والمناطق الفقيرة في إسطنبول على سبيل المثال، لندرك أن هذا الميْل لايزال مستمرًا.
لاريب في أن القضية الاجتماعية لم تكن العامل الوحيد الذي جاء بحزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002؛ إذ استطاع الحزب أن يكسب في صفه الملايين من المواطنين الذين لم يستطيعوا أن يحصلوا على نصيبهم من التنمية الاقتصادية، وذلك بفضل السياسات الاجتماعية الناجعة التي قام بها. كما تسبب توجُّه حزب الشعب الجمهوري وخطابه النخبوي الذي كان يحتقر الجماهير الفقيرة ويستهزئ بـالمعونات المقدمة إلى الفقراء من قبل حزب العدالة والتنمية مثل “الفحم والمكرونة”، والتي جعلت حزب العدالة والتنمية، بشكل أو بآخر، أفضل ممثل للقضية الاجتماعية وأكثرهم إقناعًا للجماهير. ولاشك في أننا جميعًا نعرف هذه الحقيقة بالأرقام والإحصائيات.
نقرأ في الأيام الأخيرة أن حزب العدالة والتنمية أنفق مبلغًا ضخمًا بلغ 30 مليار ليرة (13 مليار دولار) من خزينة الدولة من أجل السياسات الاجتماعية، ووصل إلى 13 مليون مواطن، أي نحو 8 إلى 9 ملايين ناخب. ولاتشمل هذه الإحصائية سوى الأُسَر التي تتلقى معونات من الدولة.
أضف إلى ذلك أن الحزب طرح على الساحة تعيين نساء في الحكومة مثل الوزيرة السابقة فاطمة شاهين، وحسن حياة ملايين الأُسَر الفقيرة. كما كانت الإصلاحات التي شهدناها في قطاع الصحة والدعم الموجه في المجال التعليمي مثل تقديم الكتب والكراسات والأقلام وغيرها مجانا للتلاميذ جزءًا من هذه السياسة الاجتماعية. هذا فضلًا عن مشاريع الإسكان الجماعي التي تشرف عليها مديرية السكن الجماعي التي تعمل تحت مظلة رئاسة الوزراء المسمى “توكي” (TOKİ) التي لعبت دورًا مؤثرًا يمكن أن ننعته بـ” المؤثر الاجتماعي” في قطاع الإسكان، بغض النظر عن تصميماتها المعمارية التي يرثى لها.
لقد استفاد ملايين المواطنين الأتراك من هذه السياسات الاجتماعات، وهم يؤمنون بأن هذه “الحقوق الممنوحة لهم”، ولو كانت غير كافية وبعيدة كل البعد عن العدل، لن تستمر إلا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية وحده، وينظرون بريبة إلى الأحزاب المعارضة. لكن حزب العدالة والتنمية يسير في طريق يؤدي به إلى أن يكون رمزًا للإسراف بقصره الرئاسي الجديد، ورمزا لغياب الضمير بسياساته تجاه حوادث المناجم المتكررة، ورمزا للظلم بوقائع الفساد التي شهدناها.
لكن ورغم كل ما ذكرناه من أخطاء الحزب الحاكم فإن حزب الشعب الجمهوري لايستطيع كسب أصوات الناخبين في الانتخابات والتفوق على حزب العدالة والتنمية من خلال تكرار الحديث عن وقائع الفساد فقط، من دون أن يتبنى السياسات الاجتماعية. ولهذا فعليه وضع القضايا الاجتماعية في مركز حملته الانتخابية إذا كان يرغب في الفوز بالانتخابات. وسنرى هل سيستطيع حزب الشعب الجمهوري مد يد دافئة بالعون إلى الملايين الذين لا يزالون في حاجة إلى المعونات ولو كان عبارة من الفحم والمكرونة حتى في يومنا هذا.