محمد عبد القادر خليل*
وضع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عددا من الشروط لإعادة تحسين العلاقات مع مصر. هذه الشروط وطريقة إعلانها، وإن كانت تكشف عن تجاوز أردوغان لصلاحياته الدستورية من خلال التدخل في قضية تخص بالأساس الحكومة التركية ورئيسها المفترض أن يناط به صوغ المقاربة التركية حيال المسار المستقبلي للعلاقات مع مصر.
بيد أن فكرة الشروط من حيث المبدأ بدت غير مقبولة مصريا سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، كما أنها رفضت من حيث الجوهر، لكونها تضمنت مطالب تتعلق بالإفراج عن بعض المتهمين الذين يحاكمون أمام القضاء المصري.
وقد انعكس الرفض المصري في الإقدام على إلغاء اتفاقية التعاون القضائي مع تركيا، وهى خطوة تلحق بقرارات مصرية سابقة تعلقت بإلغاء اتفاقيات أمنية وعسكرية كانت تخدم مصالح تركيا مثلما تحقق المصالح المصرية.
كما اتجهت مصر، في مسار مواز للتصعيد التركي المستمر، إلى تجميد العمل باتفاقية الرورو التي كانت تلبي غايات تركيا الخاصة بمضاعفة صادراتها إلى الدول العربية، وذلك لكونها كانت تكفل للصادرات التركية اتخاذ مسار بديل عن المرور بقناة السويس عبر نقل البضائع التركية من خلال الأراضي والموانئ المصرية، وهو الأمر الذي حقق لتركيا استثناءا فريدا ساهم في تحقيق شركات الملاحة المرتبطة بعائلة أردوغان أرباح طائلة.
وقد ارتبط الموقف المصري، الذي اتبع سياسات الحفاظ على المصالح والابتعاد عن استراتيجيات التصعيد السياسي المضاد، بإدراك أن أردوغان بات يرهن مصالحه مع مصر بنمط علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين، وأنه لديه توجه لتوثيق علاقات بديلة مع دول مثل إسرائيل وإيران، هذا على الرغم من أن الأولى أراقت دماء مواطنين أتراك في المياه الدولية بالبحر المتوسط، وشكلت سياسات الثانية تهديدات لأمن تركيا وسلامة أراضيها، بسبب سياساتها الطائفية.
وفي مقابل ذلك، لم تتخذ مصر من تدخلات أردوغان المتكررة في شؤونها الداخلية ذريعة للتعليق على أحكام القضاء التركي، أو لكي تنتقد التدخلات السياسية للحد من استقلاليته سواء من خلال محاولات السيطرة على الهيئات القضائية العليا، بأساليب متنوعة، أو عبر القيام بالتنكيل بعدد غير محدود من المدعين العموم وعناصر الشرطة الوطنية، ليس لشيء إلا للقيام بأعمالهم في الكشف عن ملفات الفساد التي تورط فيها عدد من أعضاء الحكومة التركية وبعض المسؤولين المنتمين لحزب العدالة ومن ضمنهم الرئيس التركي ذاته ومقربون منه.
كما لم تتبن مصر مبدأ المعاملة بالمثل لتتعرض للأوضاع الداخلية في تركيا والسياسات التي تستهدف النيل من المعارضين وارتفاع وتيرة سجن الإعلاميين وتوجيه اتهامات متعددة لهم تحت مزاعم وهمية، هذا فضلا عن اتساع نطاق الفساد الحكومي وفق تقارير دولية وليس حسب تقارير صحفية مصرية أو عربية، إضافة إلى دعم تركيا، أو على الأقل عدم اتخاذ إجراءات فاعلة، في مواجهة التنظيمات الإرهابية التي باتت تتحرك على الأراضي التركية بحرية مدعومة من قبل حزب العدالة.
هذا إضافة إلى أن مصر لم تصدر بيانات بحق سجن العشرات من رجال الجيش التركي بدعوى التخطيط لمؤامرة تستهدف إسقاط حكومة العدالة والتنمية، ولم تعلق كذلك على تبرئة البعض منهم بعد سنوات قضوها داخل السجون التركية، ولم تندد مصر أيضا بسجن وعزل المئات بحجة الانتماء لما أسماه أردوغان “الكيان الموازي” والتنكيل بالصحفيين بذريعة انتقاد “الذات الأردوغانية”.
لم تعلق مصر كذلك على تبرئة الوزراء المتهمين بالفساد وموقف البرلمان التركي بشأن عدم إحالتهم إلى المحاكمة، وكذلك لم تصدر بيانا بحق المعارك التي دارت داخل البرلمان التركي بسبب قانون الأمن الداخلي أو قانون “الاشتباه المعقول” رغم ما يحمله من مخاطر على وضعية الحريات وحقوق الإنسان بتركيا، رغم التعليقات والانتقادات الأوروبية الحادة لتركيا بسبب هذه الأحداث، كما لم تنجرف إلى الاعتراف بما يسمى “مذابح الأرمن” كبعض الدول الغربية الحليفة لتركيا.
إستراتيجية مصر تلخصت في العمل على محاصرة التنظيم الإرهابي الذي يستهدف أمن مصر ومختلف دول المنطقة، ولم تجعل من ذلك ذريعة للتدخل في شؤون الدول الأخرى، ليبدو أن مصر تتبني ذات النهج الذي كان قد دعا إليه أحمد داوداوغلو حينما كان وزيرا للخارجية بشأن ضرورة احترام سيادة الدول.
هذا في الوقت الذي تخلت فيه تركيا ذاتها عن جميع المبادئ والقيم التي عبر داوداوغلو نفسه عنها سواء في كتبه أو مقالاته أو تصريحاته، والتي أشار فيها بوضوح إلى التزام تركيا بعدم التدخل في شؤون الدول المجاورة والسعي التركي للانتقال من استراتيجية “صفر مشاكل”Zero Problems إلى استراتيجية “تعظيم التعاون” Maximum cooperation مع دول الجوار الجغرافي.
كما تخلت تركيا عن الأفكار الطموح، التي طرحها داوداوغلو كفكرة “البيوت الخشبية”، والتي أوضح من خلالها رؤية تركيا لأمن الدول العربية معتبرا أن أي أذى يلحق بهذه الدول لا بد وأن يطول تركيا، وهو الأمر الذي بات أبعد ما يكون عن الواقع، حيث تعتبر تركيا حاليا وفق رؤية قطاع واسع من المواطنين المصريين والعرب كإيران، دولة تستغل الأوضاع الأمنية في المنطقة للتدخل في شؤون الدول الأخرى.
مشكلة تركيا أنها تتعامل مع مصر من منطلق التحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجهها، ولكنها لا تأخذ الأمر على محمل الجد كما يفعل المصريون، حيث يرون حاضرهم من منطلق توقعهم لمستقبلهم، وإدراكهم أن حقائق الجغرافيا والتاريخ والقوة العسكرية والحضور الديمجرافي تدفعهم للسعي إلى تعويض “السنوات الضائعة”، كما فعلت تركيا ذاتها، من خلال محاولة تعويض ما فاتها خلال عقد التسعينيات الذي اعتبره داووداوغلو عقدا ضائعا من عمر الجمهورية التركية.
موازين القوى الإقليمية والدولية بتعبيرات داوداوغلو، مرة أخرى، دائمة التغير وإذا كان أردوغان لا يدرك ذلك فيجب أن تنبهه وسائل الإعلام المحايدة والمستقلة و”مستشاروه القدامى” إلى أن تركيا قبل سنوات معدودة لم يكن لها أي وزن إقليمي في الشرق الأوسط بسبب انصرافها عن قضايا الإقليم وإشكالياته، وأوضاعها السياسية والاقتصادية والأمنية المتدهورة، وأن سياسات الانحياز للخيارات التي تستهدف التصعيد مع مصر لن تجني منها تركيا إلا خسارة مصالحها المتعددة، ذلك أن استراتيجية تركيا في هذه الحالة لن تكون تعظيم التعاون مع دول الإقليم، وإنما خلق مزيد من الصراعات، غير أن نواتج تكتيكات كسب الأصدقاء ليست كمرود استراتيجية خلق الأعداء.
ـــــــــــــــــ
*مدير برنامج تركيا والمشرق العربي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية.