برلين (زمان التركية)ــ نشر موقع (أحوال تركيا) تقريرا صحفيًا يرصد المخاطر التي تحيط بالاقتصاد التركي في ظل سعي الرئيس رجب طيب أردوغان الذي نصب بالأمس رئيسا في تركيا، وراء نهج النمو الاقتصادي الذي رأى أنه “سينقلب إلى لعبة خاسرة”.
وجاء في التقرير: وجرى الإعلان الأسبوع الماضي عن أن معدل التضخم بلغ 15.4 بالمئة في يونيو، وهو ما أحدث صدمة كاملة للمستثمرين وخبراء الاقتصاد. ويبدو أن الأسعار تخرج عن السيطرة أكثر فأكثر، وقد تزيد بما يتراوح بين 18 و20 بالمئة خلال ذروة الصيف.
ومن ثم فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل يفطن أردوغان إلى تغير البيئة في الأسواق العالمية – التي تشهد نزوح الأموال من الأسواق الناشئة باعتبارها أقل استقرارا – ويعود إلى السياسات الاقتصادية التقليدية التي أثبتت نجاحا في الأيام الأولى من حكمه؟ أم هل ستصر حكومته على الاستمرار في السعي وراء نهج النمو الاقتصادي الذي سينقلب إلى لعبة خاسرة؟
إذا اختار أردوغان صوت العقل في الجانب الاقتصادي، فقد تنجح تركيا في التغلب على كساد اقتصادي يلوح في الأفق حالما ينتهي مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأميركي) من برنامج زيادة أسعار الفائدة وتبدأ الأموال تتدفق من جديد على الأسواق الناشئة.
وصارت قراءة تضخم يونيو الكابوس الأكثر إزعاجا لتركيا؛ فقد ارتفع التضخم السنوي في أسعار المستهلكين إلى 15.4 بالمئة مقارنة مع 12.2 بالمئة في مايو. في الوقت ذاته، سجل مؤشر أسعار المنتجين زيادة هائلة حيث بلغ 23.7 بالمئة.
ومن المنتظر أن تتسارع وتيرة زيادة أسعار المستهلكين بسبب الفجوة بين مؤشر أسعار المستهلكين ومؤشر أسعار المنتجين، فضلا عن أثر انخفاض قيمة الليرة 20 بالمئة هذا العام، والعودة لرفع الأسعار في القطاع العام بعد تأجيله بسبب انتخابات الرابع والعشرين من يونيو الرئاسية والبرلمانية، واستمرار ارتفاع تكلفة الطاقة في الأسواق العالمية.
ويمثل هذا السيناريو خطرا بالغا على تركيا وشركاتها ومستهلكيها الذين يعانون بالفعل. وهذا مشهد جديد كليا على الاقتصاد التركي.
لكن التدهور الذي شهدته ديناميات التضخم في تركيا لم يكن مفاجئا، إذ تفاقمت المشكلة تدريجيا؛ فقد تراوح متوسط مؤشر أسعار المستهلكين بين ثمانية وتسعة بالمئة خلال الفترة من 2010 إلى 2013. وكان ذلك وقت بلوغ السيولة العالمية – أو ما يسمى “المال السهل” – مستوى ذروة في الأسواق الناشئة. كان ذلك أيضا عندما تحول البنك المركزي من نظام يستهدف التضخم إلى سياسة نقدية تقليدية تستند إلى أسعار فائدة متعددة في مسعى على ما يبدو لإرضاء أردوغان وتهدئة نفوره من رفع أسعار الفائدة.
بعد ذلك ارتفع التضخم إلى ما يتراوح بين 10 و11 بالمئة خلال الفترة من 2013 إلى 2016، حيث قاد صعود الدولار والتقلب في الأسواق العالمية عملات الأسواق الناشئة إلى الهبوط.
وهوت قيمة الليرة التركية بنحو 20 بالمئة مقابل الدولار في الأشهر الثلاثة الماضية. لكن ما لدينا الآن هو صدمة عملة كاملة ستضر بشدة بديناميات التضخم، وهو ما يعني أن مستوى 15.4 بالمئة الحالي هو بالتأكيد ليس مستوى الذروة.
وكان البنك المركزي التركي شديد البطء في رفع أسعار الفائدة هذا العام من أجل المساعدة في كبح جماح التضخم وتراجع قيمة العملة المحلية. وكان تحركه في اللحظة الأخيرة برفع أسعار الفائدة بإجمالي 500 نقطة أساس مصدرا لصدمة أخرى في أسعار الفائدة أيضا.
من ثم فإن مؤشر أسعار المستهلكين يتجه صوب تسجيل مستوى يتراوح بين 18 و20 بالمئة بحلول أغسطس. ونحن هنا أمام بيئة تتسم بالركود التضخمي، من المتوقع أن يتحول فيها النمو خلال الربع الثالث من العام إلى تسجيل قراءة بالسالب. وسيتبع ذلك ربعان تهيمن عليهما بيئة الركود.
والحقيقة المثيرة للقلق هي أن التضخم في تركيا ظل لا يبرح المستويات المرتفعة خلال السنوات الثماني الماضية كما هو موصوف. وهذه المرة، من المرجح أن يظل مؤشر أسعار المستهلكين عند ما يتراوح بين 14 و15 بالمئة خلال الفترة من 2018 إلى 2020.
والإجابة على سؤال هل ستكون هناك حياة في تركيا بعد وصول التضخم إلى 15 بالمئة، هي أن هذا يعتمد على أمور أخرى. فالموضوع برمته معقود على الخط الذي سينتهجه أردوغان في إدارة الاقتصاد في ظل النظام الرئاسي الجديد، والذي يعد الأول من نوعه في البلاد، كما أنه فريد من نوعه بين مثل تلك الأنظمة حول العالم.
وليس سرا أن إدارة حزب العدالة والتنمية ركزت كثيرا على إعادة هيكلة الاقتصاد التركي من خلال برنامج لصندوق النقد الدولي خلال الفترة من عام 2002 إلى عام 2008. لكنها بعد ذلك أعطت أولوية للنمو الاقتصادي.
وفتحت تكاليف الاقتراض المنخفضة ووفرة السيولة في الأسواق المالية العالمية الباب أمام مثل تلك السياسات من دون إضافة الكثير من الأعباء على الاقتصاد ومن دون ظهور واضح لأعراض الاختلالات في الاقتصاد الكلي. لكن ذلك الزمن ولى والأمور تبدلت.
فالآن، وقد صار المستثمرون في الأسواق المالية يركزون على فترة ممتدة من ارتفاع أسعار الفائدة والتضخم لا مفر منها، تشهد الأسواق الناشئة نزوح تلك الأموال التي ارتكبت حكوماتها أخطاء كبيرة في الاقتصاد الكلي خلال حقبة المال السهل. بمعنى آخر، تسعى تلك الأموال الذكية إلى التدفق على دول لم تَكْسَل حكوماتها عن ترتيب أوضاعها الداخلية خلال تلك السنوات المزهرة، بعد أن حل خريف تلك المرحلة.
وقد غير أردوغان الثقافة الحاكمة لتركيا بشدة، خاصة بعد الاستفتاء الذي أجرته البلاد العام الماضي على رئاسته الموسعة السلطات. وهو الآن بحاجة في المقام الأول إلى الترتيب لإحكام البيروقراطية بعد انتخابه في الرابع والعشرين من يونيو، لكي يسير العمل بسلاسة في ظل السلطات الموسعة التي أصبح الرئيس مخولاً بها. والتعيين المرتقب لفريق جديد من الوزراء اليوم لن يعطينا أي دلائل حول الكيفية التي سيدار بها الاقتصاد، حيث ستتقلص سلطات هؤلاء الوزراء كثيرا في ظل النظام الرئاسي الجديد.
وفضلا عما سبق، من المنتظر أن يسيطر أردوغان أكثر فأكثر على مجريات الاقتصاد اليومية، إذ سيُسند المزيد من الأدوار الاقتصادية الرسمية إلى مستشاريه الكثيرين الذين اشتهروا بنهجهم التصادمي مع الطرق الرأسمالية التي تتبعها القوى السوقية الغربية.
ولا تقتصر مشاكل تركيا الاقتصادية المتنامية على التضخم المرشح للارتفاع أكثر من ذلك؛ فالتضخم هو فقط أحد نتائج الأخطاء في السياسات التي اتُبعت خلال السنوات العشر الأخيرة في حكم حزب العدالة والتنمية القابع في السلطة منذ 15 عاما.
وهناك قنبلة موقوتة في يد تركيا، هي حجم الدين الخارجي الضخم على الشركات، والذي يصل إلى ما يتراوح بين 25 و30 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في اقتصاد يكابد من أجل التركيز على القطاعات الإنتاجية في غياب قيادة مؤثرة.
وعندما ساعد نائب رئيس الوزراء محمد شيمشك في تمهيد الطريق أمام الزيادات في أسعار الفائدة هذا العام، والتي نفذها على الرغم من الموقف المعروف الذي يتبناه أردوغان المعارض لرفع أسعار الفائدة، وعد المستثمرين ببرنامج يرقى لأن يكون على نهج صندوق النقد الدولي بعد انتخابات يونيو.
لكن في الوقت الذي من المقرر فيه إجراء الانتخابات المحلية في مارس 2019، وبينما يواجه حزب العدالة والتنمية خطر خسارة مدينتي إسطنبول وأنقرة الكبيرتين، من غير المرجح إلى حد كبير أن يتمكن أردوغان ومستشاروه المقربون من التخلي عن خططهم الرامية إلى تحقيق معدل نمو أكبر وأن يتبعوا مسارا تقشفيا هو أكثر ملاءمة لهدف خفض معدلات التضخم.
وسيكون أردوغان مشغولا بتشكيل ملامح الدولة على نحو يتوافق مع النظام الرئاسي الجديد؛ وبحسب قوله، فإنه سيتحرك في “أي موضوع وكل موضوع”. هذا هو المصير الذي بانتظار تركيا في ظل حكم أردوغان صاحب السلطات الأوسع. في الوقت ذاته، يتعين على الرئيس التعامل مع المشاكل الاقتصادية الملحة التي لم يعد من الممكن إخفاؤها وراء ستار الأموال التي تدفقت على البلاد خلال أوقات الرخاء.
ومن ثم فإن كل شيء يعتمد على خيارات أردوغان وقدرته على فهم الحقائق الاقتصادية.