تقرير: ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – لا تزال الدعوة التي وجهها رئيس تركيا رجب طيب أردوغان إلى أنصاره للنزول إلى الشوارع للتصدي لمحاولة الانقلاب الفاشلة ليلة 15 تموز / يوليو 2016 بدلا من القوات الأمنية التابعة له موضوعًا يثير تساؤلات لم يجد الرأي العام حتى اللحظة أجوبة مقنعة لها.
وقائع لا يمكن التحقيق بها!
تتكشف كل يوم معلومات ووثائق جديدة تثبت أن ما سمي “محاولة الانقلاب الفاشلة” دبرتها السلطة السياسية بقيادة أردوغان من أجل إعادة تصميم المجتمع والسياسة والجيش، غير أنه من المؤسف أنه لم يبق في تركيا أي جهاز سيادي مسؤول يمكنه التحقيق في هذه الوقائع وفعل ما يلزم طبقًا للقانون والدستور، في ظل خضوع كل أجهزة الدولة لشخص واحد فقط.
تبين مؤخرًا أن سيارة إطفاء تابعة لإحدى البلديات في إسطنبول حملت “قناصًا” على متنها ثم موضعته في مكان عال يطل على جسر إسطنبول بحيث يمكّنه من إطلاق نيران من أجل الإيقاع بين العسكريين والمدنيين وإشعال فتيل أحداث الشغب والفوضى في البلاد قبيل بدء أحداث الانقلاب الفاشل.
فقد انتشر مؤخرًا في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة مقطع فيديو يُظهر أن الشخص الذي اعتدى بالحزام على طلبة عسكريين عزّل على جسر إسطنبول ليلة الانقلاب الفاشل يعترف بأن سيارة إطفاء رسمية موقعت القناص على عامود يطل على جسر إسطنبول مساء يوم 15 تموز / يوليو 2016، وهو الذي أطلق النيران على المدنيين من أجل الإيهام بأن العسكر “الانقلابيين” هم من أطلقوا تلك النيران.
الشخص الملتحي الذي اعتدى بالحزام على العسكريين العزّل في الجسر ليلة الانقلاب يقول في مقطع الفيديو يعود تاريخ تسجيله إلى أكثر من عامين، مشيرًا بيده إلى المكان: “بعد قليل سيضعون القناص على ذلك المكان العالي.. وهو قادم الآن على متن سيارة الإطفاء التابعة للبلدية”.
وعلى الرغم من أن السلطات التركية تنفي وجود قناص أو استخدام مواطنين مدنيين السلاح ليلة الانقلاب الفاشل، إلا أن أحد المواطنين في مقطع فيديو آخر تداوله رواد مواقع التواصل الاجتماعي أيضًا يقول عند سماع دوي إطلاق النيران: “أصوات النيران الخفيفة هذه تصدر من الأسلحة التي يستخدمها مواطنونا ضد الانقلابيين”.
مقطعا الفيديو هذان وأمثالهما من مقاطع الفيديو التي ظهرت في وقت لاحق لتاريخ الانقلاب أثارت استياء كبيرًا بين أسر وأقارب ضحايا الانقلاب الفاشل، حيث قالت أخت طالب عسكري يدعى “مراد” الذي اعتدى عليه الشخصُ المذكور ثم قتل بنيران مجهولة: “هذا الشخص الذي اعتدى على أخي وطلبة عسكريين آخرين عزّل ليلة الانقلاب يقول معترفًا بأنهم سيموضعون بعد قليل قناصًا في ذلك المكان العالي. إذن لماذا زعمتم حتى اليوم عدم وجود أي قناص وافتريتم على هؤلاء العسكريين بأنهم مَن أطلقوا النيران على المدنيين. هذا الشخص والآخرون الذين قتلوا أخي والطلبة العسكريين الآخرين الأبرياء سيخضعون للحساب آجلاً أم عاجلاً”.
ووجهت أخت الطالب العسكري “مراد” المقتول ليلة الانقلاب سؤالاً للسلطات الرسمية قائلة: “مَن هم المسؤولون الذين وظّفوا ذلك القناص؟ يجب عليكم أن تكشفوا لنا على الفور عن هوية ذلك القناص والذين موقعوه هناك. كل المعلومات الخاصة بهوية هؤلاء المجرمين معلومة للدولة، فيجب عليها القيام بما يلزم”.
الجنود: خرجنا تنفيذًا للأوامر
وكان طلبة عسكريون تم اعتقالهم بتهمة المشاركة في الانقلاب الفاشل أكدوا في المحكمة أنهم خرجوا إلى الشوارع تنفيذًا لأوامر قادتهم ولم يكن لديهم علم بأمر الانقلاب، وأنهم كانوا يفكرون في تسليم أنفسهم للسلطات بعد أن أدركوا خداعهم من قبل قادتهم، إلا أنهم تعرضوا لإطلاق نيران كثيفة من أحد القناصين قرب الجسر. غير أن المحكمة نفت صحة أقوالهم وأنزلت عليهم حكمًا بالحبس المؤبد، في حين أنها لم تعاقب أيًّا من قادتهم!
يرى محللون أن دعوة الشعب التركي للنزول إلى الشوارع بدلا من القوات الأمنية ليلة الانقلاب، وتوزيع أسلحة عليهم واستخدامها ضد الطلبة العسكريين العُزّل، وقصف مقر البرلمان وحديقة القصر الرئاسي بشكل صوري ساعد أردوغان في تشكيل الصورة التي يريدها من أجل إضفاء صبغة حقيقية على روايته الرسمية للأحداث، كما فعل من قبله أدولف هتلر الذي أحرق البرلمان الألماني لإطلاق حركة تصفية شاملة ضد معارضيه.
دلالات صريحة
فقد شرع أردوغان في صبيحة تلك الليلة في تصفية غير مسبوقة في صفوف الجيش ومجلس القضاء الأعلى وكبار البيروقراطيين وفق قوائم التصنيفات المعدة مسبقًا، وبادر إلى فصل واعتقال عدد كبير من العسكريين حتى الذين تصدوا للانقلاب، ومنهم القائمون على حماية طائرة أردوغان شخصيًّا أثناء انتقالها من مدينة موغلا إلى إسطنبول. بل توسعت حملات التصفية بحيث شملت المدنيين، دون تمييز بين الرجال والنساء والأطفال، حتى الذين كانوا خارج تركيا زمن الانقلاب. كما انتهز أردوغان هذه الفرصة وأمر بإغلاق مئات من المؤسسات التعليمية والإعلامية ومصادرة ممتلكات أكثر من ألفي شركة وفصل مئات الآلاف من وظائفهم. بالإضافة إلى التعذيب الممنهج داخل السجون والمعتقلات لانتزاع اعترافات من المعتقلين تستخدم لمزيد من الاعتقالات ولإضفاء الشكل القانوني على المحاكمات الصورية.
تحمل كل هذه الإجراءات والممارسات دلالات صريحة على تدبير أردوغان لهذه المحاولة الانقلابية الفاشلة 15في يوليو / تموز 2016 مع حلفائه من تيار الإسلام السياسي ومخلفات الدولة العميقة، ليتمكن بعدها من إطلاق انقلاب مضاد حقيقي يعيد من خلاله هيكلة المؤسسة العسكرية والسلك البيروقراطي والحياة المدنية.
مزيدًا من البراهين
ولا يمكن هنا إغفال ما كشف عنه كل من نور الدين فيرن؛ الكاتب الصحافي الذي طرد مؤخرًا من صحيفة (يني عقد) الموالية للحكومة بسبب مقال انتقد فيه نائب وزير المالية والخزانة نور الدين نباتي، والذي عرف بعدائه الصارخ لحركة الخدمة، وعبد الرحيم كارسلي؛ أستاذ القانون ورئيس حزب المركز المنتمي إلى التيار الإسلامي والمعروف بعلاقاته الوطيدة مع دوائر السلطة الحالية في وقت سابق، حيث كشفا قبل فترة قصيرة عن معلومات ووثائق صادمة حول الانقلاب الفاشل. فالكاتب نور الدين فيرن أدلى بتصريحات مثيرة في عريضة الشكوى التي تقدم بها إلى النيابة العامة وضعت أردوغان في موقف حرج. إذ أكد أن أردوغان استدعاه من سجنه في عام 2015 واستضافه في قصره بحضور وزير العدل السابق والمستشار الرئاسي الحالي بكر بوزداغ، وقدم لهما ملفًا يتألف من ستّ صفحات يثبت بالأدلة والوثائق أن هناك استعدادات لانقلاب عسكري داخل الجيش، ومن ثم يعقّب بقوله: “لقد أكد كل من السيد رئيس الجمهورية ووزير العدل أنهما سيهتمون بالقضايا المطروحة في الملف وسيقومان بما يلزم. وكل من المستشار الخاص الرئاسي حسن دوغان والمحامية كزبان حاتمي من شهود هذا اللقاء”. ثم يستأنف قائلاً: “إلا أن وقوع انقلاب 15 يوليو/ تموز 2016 الخائن بعد مرور عام كامل على هذا اللقاء يدل بصورة واضحة على أن أيًّا من أجهزة الدولة لم تهتم بهذه التحذيرات ولم تتخذ تدابير وقائية كفيلة بمنع هذه المحاولة!”.
والتصريحات التي أدلى أيضًا رئيس حزب المركز عبد الرحيم كارسلي هي الأخرى أخذت مكانها ضمن الأدلة والوثائق التي تبرهن على أن محاولة الانقلاب كانت مؤامرة ضد حركة الخدمة وتركيا. فقد قال عبر تغريدة على حسابه في تويتر إنه حصل على نسخة من عريضة شكوى تقدم بها أحد المشتكين إلى النيابة العامة في إسطنبول، مع إعطاء رقم ملف عريضة الشكوى وهو (2018/174149). ويؤكد كارسلي أن المشتكي يتحدث بالأدلة والوثائق عن أن أركان الحكومة كانوا على علم مسبق بالإجراءات المتخذة في الجيش قبل محاولة الانقلاب، لكنهم لم يحركوا ساكنًا لمنع حدوثها. ثم يضيف كارسلي قائلاً: “مع أن المسؤولين قالوا بأنهم سيقومون بما يلزم، لكن تبين أنهم انتظروا متفرجي الأيدي أن تحل بنا كارثة الانقلاب! ولماذا انتظروا ولم يتخذوا التدابير؟ جواب هذا السؤال وأمثاله في هذا الملف. ما آمله وأرجوه من الله تعالى هو أن تتجلى كل الحقائق في أقرب وقت ممكن”.
انقلاب مدبر
إذا تدبرنا هاتين المعلومتين أو الاعترافين في ضوء الاعترافات والمعلومات والوثائق الأخرى التي ظهرت حتى اليوم فمن السهولة بمكان أن نستوعب مضمون عبارة “الانقلاب المدبر” التي طرحتها المعارضة في تفسير ما حدث في 15 تموز 2016. فأردوغان الذي فرغ من غلق ملفات الفساد والرشوة عام 2013 وإخضاع الأمن والقضاء لحكومته بسفسطة “الكيان الموازي” كان يخطط للشروع في تطبيق النهج ذاته في المؤسسة العسكرية التي قالت لأردوغان: “لن أسمح بإطلاق عمليات الكيان الموازي في صفوف الجيش”، و”لن نتدخل عسكريا في سوريا ما لم يكن قرار من الأمم المتحدة” (رئيس الأركان السابق وزير الدفاع الحالي خلوصي أكار) و”إذا تم تجاوز خطوطنا الحمراء في مفاوضات السلام الكردي مع حزب العمال الكردستاني فإننا لن نتردد في القيام بما يجب” (رئيس الأركان الأسبق نجدت أوزيل). بل إنه كان يبحث عن ذريعة لإعادة ترتيب الجيش من ألفه إلى يائه تمهيدًا لتأسيس جيشه الشخصي من العناصر الراديكالية الإسلامية التي جمعها من كل أنحاء العالم في سوريا على غرار الحرس الثوري الإيراني. تنفيذا لهذه الرغبة يوظف أردوغان العسكريين المرتبطين به أو بحليفه أرجنكون الموصوف في تركيا بالدولة العميقة، فيقومون بالتآمر على الجنرالات والضباط الذين يغلب عليهم النزعة الانقلابية التقلدية ويدبرون انقلابًا مدبرًا أو عصيانًا محدودًا مسيطرًا عليه. يحمل أردوغان مباشرة المسؤولية الكيان الموازي، ويصف المحاولة بـ”هدية كبيرة من الله” في تصريحات أدلى بها ليلة الانقلاب ذاته، ويطلق في صبيحة الليلة نفسها عملية اعتقال وفصل جماعية طالت عشرات الآلاف بتهمة العضوية في تنظيم إرهابي خرج إلى الوجود بين ليلة وضحاها تحت مسمى “منظمة فتح الله كولن…” وفق قوائم أسماء معدة مسبقًا، وارتفعت هذه الأرقام في قابل الأيام إلى مئات الآلاف. ونتيجة هذه العمليات تودع الديمقراطية الهشة تركيا ويحل محلها نظام الرجل الواحد.