منى سليمان*
(زمان التركية)- عشية إنطلاق “مؤتمر برلين“ حول ليبيا يوم 19 يناير 2020 بدعوة من المستشارة الألمانية انجيلا ميركل وبحضور 12 دولة و4 منظمات دولية لبحث سبل وقف إطلاق النار في ليبيا والحل السلمي النهائي للأزمة، عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان جلسة عمل مغلقة قبل إنطلاق الجلسة الرسمية بالعاصمة الألمانية. للتأكيد علي استمرار التنسيق بين موسكو وأنقرة في الملف الليبي والذي بدأ خلال زيارة “بوتين” لأنقرة في 8 يناير 2020 ثم بعقد إجتماع موسكو بعد ذلك، والتعاون الروسي التركي في الملف الليبي يعزز التعاون الاستراتيجي بينهما الآخذ في التطور والنمو بما يثير القلق الأمريكي. ويثير كذلك عدة تساؤلات ومنها.. هل سيتمكن “بوتين – أردوغان” من استمرار التنسيق بينهما في الملف الليبي كما حدث بالملف السوري؟ وهل سينجحان في إقناع الأطراف الليبية المتصارعة بوقف إطلاق النار، كما حدث بالملف السوري خلال السنوات الثلاث الماضية؟ وهل ستقبل دول الجوار الليبي وشرق المتوسط والإتحاد الأوروبي أن تنفرد موسكو وأنقرة بصوغ الحل النهائي للأزمة التي تمثل تهديد مباشر للأمن القومي لهذه الدول؟ هذه التساؤلات التي سنسعى للإجابة عليها فيما يلي ..
- أهمية زيارة “بوتين” لأنقرة “:
قام الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين“ يوم 7 يناير 2020 بزيارة هامة لدمشق ألتقى خلالها الرئيس السوري “بشار الأسد”، وأجتمع معه في مقر القيادة الروسية العسكرية بدمشق للاطلاع على اخر تطورات الوضع الميداني بسوريا، وتنبع أهمية هذه الزيارة في توقيتها الذي سبق زيارته لأنقرة بيوم واحد ليرسل لحليفه “أردوغان” برسالة ضمنية فحواها أن موسكو ستبقي اللاعب الأول في الملف السوري، كما أن “بوتين” قام بزيارة عدة أماكن سياحية بدمشق من بينها المسجد الأموي ليؤكد إنتهاء الأعمال المسلحة وأعمال العنف بسوريا وعودة الحياة الطبيعية للبلاد والتخطيط لعملية إعادة الاعمار التي ستشرف عليها شركات صينية وروسية. ثم أنطلق بوتين” من دمشق ليصل يوم 8 يناير 2020 لاسطنبول حيث استقبله نظيره التركي “رجب طيب أردوغان” في زيارة سيطرت عليها 3 ملفات رئيسية هي ..
– تدشين السيل التركي: خلال احتفال ضخم في اسطنبول، وصف “إردوغان” تدشين خط الغاز “السيل التركي” القادر على نقل 31.5 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنوياً لدول جنوب أوروبا، بأنه “حدث تاريخي للعلاقات التركية-الروسية وخريطة الطاقة الاقليمية”. وأكد أن “السيل التركي سيغير خارطة الطاقة، ويجعل تركيا مركزا عالميا للطاقة ولا نرغب في التسبب بأي توتر في العالم”. بدوره أوضح “بوتين” إن “الشراكة بين روسيا وتركيا تتعزز في كل المجالات رغم جهود من يعارضونها”، ثم فتحا الرئيسان صماماً رمزياً لأنبوب غاز للإشارة إلى بدء العمل بهذا الخط. ويجسّد هذا المشروع الذي بدأ بناؤه العام 2017 التقارب القوي في العلاقات بين روسيا وتركيا بعد تجاوز “بوتين” عن أزمتي إسقاط الطائرة الروسية 2015 وإغتيال السفير الروسي بأنقرة ديسمبر 2016.
ومع بدء العمل بخط أنابيب الغاز الجديد، تؤمن تركيا تغذية مدنها الغربية الكبرى التي تستهلك كمية كبيرة من الطاقة، وتفرض نفسها كذلك ممراً أساسياً لهذه المادة الحيوية. حيث يتيح المشروع لروسيا تغذية جنوب أوروبا وجنوب غربها بالغاز دون الحاجة إلى المرور بأوكرانيا التي كانت الممر الرئيسي للغاز الروسي إلى أوروبا سابقاً، ويتألف الخط التركي من أنبوبين متوازيين بطول 930 كيلومترا ، يصلان أنابا في روسيا ببلدة كييكوي في شمال غرب تركيا. وبدأ الخط مطلع عام 2020 تغذية بلغاريا المحاذية لتركيا، وسيجري توسيع نطاق عمله تدريجاً نحو صربيا والمجر.
ويأتي تدشين خط الغاز ليربط أمن الطاقة للدول الأوروبية بموسكو وأنقرة، ويجعل العاصمتين تتحكمان فيه، حيث حقق “أردوغان” حلمه بمرور الغاز الروسي للدول الاوروبية عبر الاراضي التركية، ليمتلك “أردوغان” ورقة ضغ جديدة على اوروبا عبر التهديد المستمر بمنع تدفق الغاز الطبيعي عنهم، وكذلك يعزز شراكته الاستراتيجية مع “بوتين” الذي يسعى للتحكم في الدول الأوروبية عبر مدهم لما يحتاجونه من المحروقات، لان الدول الاوروبية برغم تفوقها التكنولوجي إلا أنها فقيرة للغاية في المواد البترولية والغازية. وبهذا يكون بوتين اردوغان قد عززا تعاونهم الاستراتيجي في ملف جديد يربط مصالحهم ببعض.
–الوضع بإدلب السورية: أكد البيان المشترك الصادر عن الرئيسين التركي والروسي عقب مباحثاتهما في إسطنبول إن الجانبين أكدا ضرورة الحاجة إلى زيادة المساعدات الإنسانية لجميع السوريين، دون تمييز أو تسييس أو شروط مسبقة. وشدد إردوغان وبوتين على الالتزام بحماية سيادة سوريا واستقلالها، ووحدتها السياسية، وسلامة أراضيها. وأعلن الرئيسين عن وقف إطلاق النار بإدلب. بيد أنه لم ينفذ علي أـرض الواقع حيث استمرت الغارات الجوية الروسية والتقدم الميداني للجيش السوري، علي ادلب اخر معقل للجماعات المسلحة والمعارضة السورية في شمال غرب البلاد. حيث بدأ الجيش السوري منذ مايو 2019 عملياته العسكرية لاستعادة السيطرة على إدلب بالكامل. وقد توقفت تلك العمليات بعض مرات خلال العام الماضي. ويغض “أردوغان” البصر عن هذه العمليات المسلحة مقابل موافقة موسكو ودمشق علي عمليته العسكرية الاخيرة بشمال سوريا (نبع السلام بدأت في 9 اكتوبر 2019 لمدة 10 ايام وسيطر علي مدينتي راس العين وتل أبيض الكرديتين)، بيد أن أردوغان مازال يستغل الوضع بإدلب لتهديد الدول الأوروبية بترحيل اللاجئين السوريين إليها، لان الوضع الاقتصادي لبلاده لم يعد يحتمل استقبال المزيد منهم، حيث نزح 300 ألف مواطن من إدلب خلال الشهر الماضي، ويطالب أردوغان الاتحاد الاوروبي بدفع مساعدات مالية كبيرة لاستقبالهم والتحكم في الحدود ومنع عبورهم للدول الأوروبية.
2- التعاون الروسي التركي بالملف الليبي:
كانت القضية الثالثة على طاولة “بوتين – أردوغان” هي الملف الليبي الذي بدأ اهتمامهم به منذ ابريل 2019 بعدما أعلن قائد الجيش الليبي الوطني المشير “خليفة حفتر” ببدء معركة تحرير طرابلس العاصمة الليبية بغرب البلاد والتي تتركز فيها حكومة الوفاق الوطنية برئاسة “فايز السراج” والتي تخضع لاوامر مئات الميليشيات المسلحة التي سيطرة على المدينة. حيث يسعى “حفتر” للسيطرة على كامل التراب الليبي وطرد الجماعات الارهابية من البلاد لاسيما بعد سيطرته على 80% من الاراضي الليبية بمطلع عام 2020 وبعد 8 اشهر من المعارك المتواصلة تمكن خلالها من السيطرة على كافة المدن من بنغازي وبرقة شرقا حتى سرت غرب البلاد.
ويرتبط “حفتر” بعلاقات جيدة جدا مع “بوتين” وزار موسكو عدة مرات حيث يعتمد الجيش الليبي على التسليح الروسي بشكل كبير، وعلى العكس فان “أردوغان” يعترف بحكومة “السراج” وتربطه علاقات وثيقة معه وأعلن في ابريل 2019 مساندته للاخير في مواجهة “حفتر، كما بدأت العلاقات بين أنقرة والسراج منحى جديد وهام في 27 نوفمبر 2019 عندما زار “السراج” اسطنبول ووقع مذكرتي تعاون امني وعسكري مع “أردوغان” يعترفان بوجود حدود بحرية بين تركيا وليبيا! في مغالطة جيوسياسية نادرة، لان هناك أراضي دولتين هما اليونان وقبرص تفصلان بين الحدود البحرية التركية والليبية، مما دفع دول شرق المتوسط ودول الجوار الليبي للاحتجاج على تلك الاتفاقية وهي (مصر، فرنسا، اليونان، قبرص). وهنا نجد تقاطعات عدة بين الدور التركي الروسي في ليبيا مع نظيره السوري، فثمة طرفين متصارعين يتلقيان دعما خارجيا ، وأحدهما يحقق تقدم ميداني كبير فضلا عن الازمات الانسانية المتفاقمة. ولذا اعتقد “بوتين – أردوغان” أن في مقدورهما تكرار التعاون الاستراتيجي بينهما لوقف اطلاق النار بليبيا ثم البدء في مسار سياسي يشرفان عليه كمسار الآستانة بسوريا.
وبالفعل فخلال قمة اسطنبول بين “بوتين – أردوغان” يوم 8 يناير 2020 دعا طرفي الصراع في ليبيا الي وقف اطلاق النار، وقد قبلا الطرفين ذلك. فقد أعلن الجيش الوطني الليبي وحكومة الوفاق الليبية فجر يوم 12 يناير 2020 موافقتهما على وقف اطلاق النار، كما قبلا دعوة “بوتين” لعقد اجتماع بموسكو يوم؟؟؟ للتوقيع على وثيقة وقف اطلاق النار، وبالفعل حضر الطرفين المتصارعين بالملف الليبي قائد الجيش الوطني الليبي “خليفة حفتر” ورئيس حُكومة الوفاق “فايز السراج”، الي موسكو وكذلك حضر وفد تركي للمشاركة بجانب “السراج” في المفاوضات. بيد أن “حفتر” رفض التوقيع علي الاتفاق لانه تضمن بنود غير قانونية ومنها اشراف تركيا على وقف إطلاق النار، وعودة الجيش الوطني الليبي لحدود مدينة بنغازي. وهذا يعني التضحية بكافة المكاسب التي حققها الجيش الوطني منذ أبريل الماضي، كما أن أنقرة تشرف علي نقل المسلحين من إدلب السورية لطرابلس الليبية لتصبح مركز جديد للجماعات المسلحة والإرهابية التي يستخدمهم “أردوغان” لتهديد الدول الاوروبية بترحيلهم لها.
وهنا، ربما يمكن للمراقب السياسي تفهم الإهتمام الروسي المتصاعد بالملف الليبي فموسكو الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي وكانت حليف لليبيا ومصدر تسليحها الاول على مدى عقود، كما أن روسيا تسعى لتعزيز موقعها كقطب دولي قوي يستعيد أماكن تمركزه في عدة اقاليم كالشرق الاوسط، والانخراط الروسي في الملف الليبي يعزز نفوذ موسكو الاقليمي والدولي. ولذا يبقي السؤال لماذا تهتم تركيا بليبيا؟ لماذا يترك الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” مشكلاته الاقتصادية الداخلية وعلاقاته الخارجية المتأزمة مع دول الجوار في اليونان وقبرص والدول العربية، ويضيف عليها ملف جديد لتوتير علاقاته معهم عبر إنخراطه سياسيًا وعسكريًا في الشأن الليبي؟! وهناك عدة تفسيرات لذلك ومنها..
–نقل الإرهابيين من إدلب السورية لطرابلس الليبية، فالملاحظ أن إهتمام “أردوغان” بالشأن الليبي تزامن مع إستعادة السيطرة السورية على “خان شيخون” أهم مدن إدلب في صيف عام 2019، وبالفعل بعد توثيق ارسال عناصر المقاتلين من إدلب لطرابلس وأكد المرصد السوري نقل 2000 منهم لليبيا في 18 يناير 2020 لدعم الميليشيات بطرابلس، في مواجهة قوات الجيش الوطني الليبي .
–تواجد تركيا في ليبيا سيعمل على تعزيز نفوذها مع جماعات الإسلام السياسي في شمال أفريقيا لاسيما بعد فوز حركة “النهضة” (تابعة لجماعة الاخوان المسلمين) برئاسة البرلمان في تونس، فضلا عن إنتماء حكومة “السراج” بطرابلس للإخوان المسلمين الليبية، كما أن “اردوغان” يعزز نفوذه كزعيم لهذه الجماعات في الدول الاسلامية ككل، وقد اتضح ذلك خلال ترأسه “للقمة الاسلامية المصغرة” (عقدت بالعاصمة الماليزية كوالالمبور في ديسمبر 2019) بمشاركة إيران وقطر وماليزيا وهي الدول التي تتحكم فيها جماعات الاسلام السياسي.
–السيطرة على الثروات الليبية من الغاز والنفط من خلال تفعيل الاتفاق الامني بين “اردوغان – السراج” الذي سيعمل بمقتضاه على تدريب ميليشيات “السراج” مقابل مبالغ مالية، وكذلك مطالبة أنقرة بالحصول على حصة من عمليات إعادة الإعمار بليبيا حال بدأت، كما بدأت أنقرة مطالبة حكومة “السراج” بدفع تعويضات عن إلغاء عشرات عقود العمل والصفقات التجارية التي عقدتها خلال فترة حكم “القذافي” وتم إلغائها بعد سقوط الأخير. وكذلك سيسعى أردوغان لتعزيز الصادرات التركية لليببيا ، التي تعد سوقا واعدة للسلع الاقتصادية والاسلحة التركية ذات التقنية التكنولوجية المتوسطة والتي تستخدمها الميليشيات والجماعات المسلحة.
–تعزيز النفوذ التركي الإقليمي ومناكفة الدول الاقليمية الشرق أوسطية (مصر/ اليونان، قبرص، فرنسا، ايطاليا)، لاسيما بعد نجاح القاهرة في إنشاء تحالف ثلاثي مع (اليونان، قبرص) وترسيم الحدود معهم وبدء التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وتم استبعاد أنقرة في هذا التحالف نظرا لسياساتها العدائية تجاه الدول الثلاث، ولذا سعى “أردوغان” لايجاد موطىء قدم له في شرق المتوسط عبر ابرام اتفاقية مع “السراج” ليتمكن من التنقيب عن الغاز في السواحل الليبية وسواحل شرق المتوسط. وهو ما أعلنت كافة الدول الشرق أوسطية رفضه لأنه مخالف للقانون الدولي.
–تواجد “أردوغان” في طرابلس الليبية سيجعله بمواجهة السواحل الأوروبية، وستمكنه من تهديد دول الاتحاد الاوروبي الذي نجح في توتير علاقاته معها جميعا، حيث بدأ تهديدهم بتصدير الإرهابيين واللاجئين من طرابلس لأوروبا ، وبهذا يكون امتلك ورقة ضغط جديدة على الإتحاد الأوروبي، وأصبح يهدد الحدود الجنوبية لدول الإتحاد.
–تواجد “أردوغان” بليبيا سيضعه بمحاذات دول وسط أفريقيا (النيجر ، تشاد، السودان، الكونغو، إلخ) مما سيمكنه من تقديم دعم للجماعات الإسلامية بشقيها السياسي والمسلح، بوسط وشمال أفريقيا لاسيما بعد تأكيد تقارير مخابراتية دولية علي تقديم “أردوغان” دعم بصورة ما لحركة “بوكو حرام” الإرهابية في نيجيريا، وكذلك سيسعى “أردوغان” لتقديم نفسه كزعيم لمسلمي أفريقيا.
مما سبق، نجد أن “أردوغان– بوتين” يعتزمان استمرار التنسيق والتعاون بينهما في الملف الليبي وتطبيق السيناريو السوري عليه، ورغم أن البيان الختامي لمؤتمر “برلين” أكد على ضرورة وقف أي تدخلات خارجية لدعم طرفي الصراع لأن الملف الليبي أصبح مصدر تهديد للأمن والسلم الدوليين، إلا أن “أردوغان” لن يوقف دعمه للميليشيات المسلحة قبل تحقيق هدفه الرئيسي وهو نقل المسلحين من إدلب لطرابلس، والمشاركة بالتنقيب عن الغاز بشرق المتوسط، وطرح تركيا كطرف في حل التسوية النهائية للملف الليبي. مما يمثل تحديا للمجتمع الدولي الذي يعجز عن ردع الطموحات الأردوغانية المخالفة للقانون والاعراف الدولية.
–