في الحلقة الثانية انتهى بنا الحديث إلى قول الشيخ الريسوني، بأن قضية التدخل في السياسة، معناها وحدودها ومجالاتها، كل ذلك يعتبر “قضية عُلمائية” محضة.
أي أن علاقة العلماء بولاة الأمر فيها خلاف كبير بين العلماء، له قواعده وأصوله، و لا يفهمه إلا العلماء، فلا يليق بغيرهم التطاول عليهم بما ليسوا أهلا له. إذ منذ زمن بعيد و العلماء مختلفون حول موالاة أهل السلطان والذود عنهم في كل حال، وبين جواز معارضتهم و الخروج عليهم بل وحمل السلاح في وجههم إن اقتضى الحال.
وقد عرفت أمتنا كل هذه النماذج و الأحوال، و تفصيل القول في ذلك موجود في مصادره. و بما أن القضية دقيقة فلا بد من معيار شرعي يُستند إليه ذلك ما خلص إليه الشيخ الريسوني بقوله: “وللإمام الشاطبي رؤية محققة ومدققة في هذه المسألة، ذهب فيها إلى أن العالم وغيره من أهل الصلاح، إذا دعوا إلى القيام بوظائف ومسؤوليات عامة تتوقف عليهم، فلا يسعهم التهرب والاعتذار بما يمكن أن يصيبهم في دينهم وورعهم … و الضابط في ذلك عنده، هو الموازنة بين المصالح والمفاسد، في حالة الإقدام وفي حالة الإحجام، فما رجح منها غُلب “.
لعمري هذا ما وجدته في سيرة الأستاذ كولن ومنهجه في السياسة. ومن سبر أغوار فكره السياسي سيلحظ كل المعاني التي ذكرها الإمام الشاطبي وغيره، بادية للعيان. حيث سنجد أن مواقف الأستاذ كولن عبر تاريخ تركيا، كانت محكومة إلى درجة كبيرة بمعيار المصالح والمفاسد، في علاقته بولاة الأمر وأهل السياسة، فقد ساند وعارض بآرائه، كثيرا من الساسة في زمن الحكومة الحالية وقبلها، في قليل أو كثير من سياساتهم الداخلية أو الخارجية المتعاقبة. مع تشديده في التأكيد على نبذ العنف قولا كان أم فعلا، إلى درجة التبرء من كل من تورط في ذلك كيف ما كانت ملته أو انتماؤه، بل وقرعه بكل الأوصاف.
وفي كون ممارسة السياسة، شر لابد منه و أنها حق من حقوق الأمة على أبنائها، يقول الأستاذ كولن موضحا :” من المقاييس والموازين عندنا أن القول “إنني لا أتدخل في السياسة، ولا تتدخل أنت في السياسة” يعني “إنني لا أتدخل في شؤون الوطن والأمة ولا أتدخل في حياة وبقاء الأمة، ولا تتدخل أنت كذلك”.
فالدارس الحصيف لفكر هذا الرجل، سيلحظ أن علاقته بالسياسة لم تكن أبدا علاقة مباشرة كما يدعي البعض، ولكنه يؤثر في مجرياتها بطريقة العلماء الكبار الذين يرون أن إبداء الرأي والتربية والتكوين والتوجيه وإعداد القادة وغير ذلك، كله جزء من مهمة العلماء بصفتهم ورثة الأنبياء، فهم قدوة الناس في مهام التلاوة والتعليم و التزكية والتربية والحكمة وغيرها. ومن غض الطرف في تدبيره السياسي، عن هذه المهام العظيمة أو همشها فضلا عن عرقلتها أو توقيفها، فإنما هو يخدع الناس ويستغفلهم.
يقول الأستاذ كولن:” نظراً لأن الكثير من الناس في أيامنا الحالية يرى أن اللعب السياسية اليومية ليست سوى استغفال للناس وخداع لهم، وصراع من أجل المنافع و المصالح، وتصوير كل الأمور غير المشروعة وكأنها أمور مشروعة، لذا نرى أن الذين يريدون الاحتفاظ بحياتهم القلبية والوجدانية والفكرية سليمة، والاحتفاظ بعلاقتهم وارتباطهم مع الحق تعالى قوية يفضلون الابتعاد عن كل حركة سياسية ويرون هذا أمراً ضرورياً. ولكن هيهات! إذ أين السياسة المتعلقة بالحق وبالعدل، والمرتبطة معها ارتباطاً لا ينفصم عن السياسة الغارقة في مستنقع الكذب والخداع.”
و كأني بالرجل وهذا منهجه، يشير إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، دون ذكره: “المؤمن الذي يخالط الناس و يصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس و لا يصبر على أذاهم.” و لعل هذا الاستشراف الحضاري و البعد السياسي في رؤية الأستاذ كولن ومنهجه، ما لم يفهمه جل من ينتقد الرجل. وأحسب أن عذرهم في ذلك، إما بعد المسافة عن المنابع الصافية للوحي الكريم وما أصاب بعض الفهوم من قصور أو سطحية لتلك الأصول، وإما أنها آثار العولمة المتوحشة التي غزت المناهج والأفكار، قبل العقول والقلوب، ليس هذا في مجال السياسة فحسب، بل في كل مجالات الحياة.
ولا بأس أن نرجع في هذه الصدد إلى الأستاذ الريسوني حين قال: ”
ومازلت أحفظ الوصية التي نقلها الإمام الشاطبي عن أحد شيوخه، حين أوصاه باجتناب التعويل على كتب المتأخرين، وقال إنهم أفسدوا الفقه …لأن المتقدمين أقرب للفطرة وأتبع لها.” وبناء على تقرير الأستاذ الريسوني نقلا عن الإمام الشاطبي، فإن منهج الأستاذ كولن، لا أقول في المجال السياسي فحسب، بل في كل فكره وفقهه الإصلاحي، لا نجده يلتفت إلى آراء المتأخرين بله التعويل عليها. فهو شديد الحساسية تجاه إرث الأمة الضائع، دائم التأمل في عصر السيرة النبوية، شديد الهُيام في صاحبها عليه الصلاة والسلام، فهي منطلقه وهي مثاله النموذجي لكل شيء. فكلما عنت له قضية من قضايا الناس، سياسية كانت أم غيرها، تجده يطير بك مباشرة إلى عصر السعادة، في ظلال ذلك الجيل الفريد، مقلبا سير أصحابه، مهموما شغوفا بردود فعل النبي صلى الله عليه وسلم، في كل كبيرة وصغيرة، موقنا بقول الله تعالى:{ما فرطنا في الكتاب من شيء}. و إيمانا منه قوله تعالى:{ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}.
بهذا الفهم العميق وبهذا المنهج الدقيق، يقوم الأستاذ كولن بدوره على بينة من الأمانة الملقاة على عاتقه مثل كل العلماء، وهي إرث النبوة. وليس المجال السياسي إلا واحدا من أبواب عديدة تحتاج قول ورأي وفقه علماء الأمة الذين حوصروا، مع كل أسف، في أدوارهم الطلائعية، التي أفرغت من مضامينها في كثير من الساحات والمجالات. والأستاذ كولن وهو يباشر مهامه الرائدة لا يعكف على القول والتنظير فقط، أو يروم التنطع في الفعل و التدبير، بل منهجه قوام بين ذلك. فلكل قول من أقواله سند، ولكل فعل من أفعاله رؤية ومثال. ولمن فاته التعرف على هذا الرجل ما عليه إلا أن يقلب صفحات مكتوباته أو موقعه، ليجد أن محمد فتح الله كولن فيلسوفا حكيما، ومفكرا مجددا، وفقيها ورعا، وخطيبا مفوها، و عالما عاملا، وسياسيا محنكا. وهي صفات عز اجتماعها لدى كثير من علماء العصر. (يتبع)