جمال تونتش دمير
كان الصحفي جوزيف جوبلز، ثاني أكثر شخصية مشهورة، بعد أدولف هتلر، في ألمانيا النازية، التي جرّت القارة الأوروبية إلى حرب شعواء راح ضحيتها ملايين البشر.
وجوبلز هو صاحب المقولة الشهيرة: “بقدر ماتكون الكذبة كبيرة يكثر المؤمنون بها!” التي أصبحت بمثابة مرشد لأولئك السياسيين الذين لايملكون خصائص السياسي المحنّك، لكنهم يطمعون في تحقيق المزيد من المجد والشهرة، في كل مكان بالعالم.
وقيل في حق جوبلز في إحدى المرات: “يعبّر عن حالة شاب مراهق لمع بواسطة طلاء ثقافي رفيع المستوى خاص بعالمه الشاعري”… كانت قدمه اليسرى أقصر من قدمه اليمنى بـ 3.5 سم، وكان لايستطيع أن يمشي إلا كالأعرج، وكان رأسه ضخما مقارنة بجسده النحيل، ولم تكن لديه أية كاريزما ظاهرة على الإطلاق، ولم يحبه أحد منذ شبابه بسبب شخصيته النمّامة والفاسدة التي تركز على كشف عيوب الآخرين. وبالرغم من ذلك، كان لدى جوبلز ولع ومهارة لامتناهية فيما يتعلق بابتكار أفكار جديدة في مجال الأساليب النفسية للسيطرة على الجماهير، وهذه هي المهارة التي جعلته يتقاطع في طريقه مع سياسي متحمّس هبّ ليمهّد الطريق، خطوة بخطوة، نحو الديكتاتورية وكان في حاجة إلى جمهور يتخذ منهم أداة للوصول إلى نقطة معينة.
كان هتلر قد انتهى من تأليف كتابه “كفاحي”، وبدأ يركز على حل المشاكل التنظيمية التي يعاني منها حزبه النازي، وعندما جلس مع الصحفي جوبلز بمدينة ميونخ في شهر أبريل/ نيسان عام 1926، وتحدثا لساعات، اكتشف هتلر أنه وجد ضالته المنشودة في شخص جويلز، ذلك الداهية الذي يستطيع أن يروج لدعاية تجعل الشعب الألماني يدعم ويصفق للخطوات الجنونية التي ستجرّه في النهاية إلى كارثة لامفر منها…
ولد جوبلز في 29 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1897 في مدينة مونشنجلادباخ لأب يعمل محاسباً، وتربى في أسرة كاثوليكية متدينة للغاية، وكانت أسرته تريد له أن يصبح عالم دين، فيما كان يطمح هو لأن يكون كاتبًا، تلقى دروسًا في الفلسفة والأدب، وأتم عام 1921 رسالته في الدكتوراه حول موضوع المسرحيات الرومانسية في القرن التاسع عشر، لكنه لم يستطع تحقيق رغبته في أن يكون كابتًا، حيث رفضته جميع دور النشر التي تقدم إليها، فامتهن الصحافة لفترة ألّف خلالها رواية تشبه السيرة الذاتية وبعض المسرحيات والأشعار الرومانسية، وقد عبّر في هذه الأعمال عن الدمار النفسي الذي تسببت به إعاقته الجسدية على شخصيته، كان أعرجا، وكانت عيناه بنيتان، وشعره أسود، وطوله لايتعدى مترًا و60 سنتيمترًا، أي أنه كان بعيداً كل البعد عن حمْل صفات العرق الآري الذي كان يؤمن بتفوقه على سائر الأعراق، لم تكن كتاباته تحظى باهتمام الناس، حيث كان يستخدم أسلوبًا يعتمد على المبالغة، الأمر الذي جعله يدرَج ضمن قائمة أساليب البلاغة السياسية.
بدأ جوبلز في عشرينيات القرن الماضي يرتبط بالأيديولوجية القومية الاشتراكية، ما وضعه في مواجهة مع حالة من التناقض، كان لديه ميل للعنف اليميني الألماني المتطرف، وكان يكره الثقافة الفكرية، وكان هذا الأمر يعد مشكلة بالنسبة له بصفته خريجًا جامعيًا، يهوى القراءة، لديه موانع جسدية تحول بينه وبين ارتكاب العنف، ويمتلك بنية جسمانية عرجاء.
يقول المؤرخ الألماني يواكيم فيست: “كان هذا الأمر هو السبب الأساسي لكره جوبلز للمثقفين، وكان هذا يعني، في الوقت نفسه، تعبيرًا عن الكره النفسي؛ إذ أنه كان يكره نفسه، وكان خوفه من أن تنعته الجماهير بلقب “المثقف البرجوازي” قد تحوّل إلى عذاب دائم، ولهذا السبب كان يعارض الطبقة المثقفة معارضة شرسة”.
عندما بلغ جوبلز السابعة والعشرين من عمره، عام 1924، انضم رسميًا إلى الحزب النازي، الذي كان يتعاطف مع أفكاره منذ فترة طويلة، وكانت تلك الفترة تشهد نقاشاً حول “أي جناح من الأجنحة القومية الاشتراكية يتمتع بالأولوية؟” ،وكان جوبلز من زمرة الذين يطرحون سؤالاً مفاده: “هل نحن قوميون أولًا أم اشتراكيون في المقام الأول؟” ، وكان سيلاحظ بعد وقت قصير أن هذا سؤال ليس له معنى في الطريق الذي يسير فيه الحزب النازي.
وبعد أن التقى هتلر وجهًا لوجه في ربيع عام 1926، ارتبط بالزعيم النازي وصار ولاؤه كله له، أما هتلر فقد عرّف جوبلز للأوساط السياسية في خريف العام نفسه، وطلب منه الذهاب إلى برلين” الحمراء” وتأسيس الكيان التنظيمي النازي هناك، وأتيحت أمام جوبلز أول فرصة لإظهار مهارته في الدعاية في ألمانيا، التي كانت بمثابة قلعة لليساريين، وكانت برلين المكان الذي اكتشف فيه “العنف” وأدرك أنه يستمتع بممارسته. وكان جوبلز “يحرّض” ويدفع شباب الحزب النازي الواقعين تحت إمرته ليهاجموا الديمقراطيين ويطاردوا الاشتراكيين في الشوارع والحانات وأماكن التجمعات، وكان يقول “لقد صُنع التاريخ في الشوارع” ،كما كان يهدد أصدقاءه اليساريين السابقين بقوله: “اربطوا كلابكم، وإلا لن تستطيعوا أن تبقوا مكانكم إن أطلقت سراح الشيطان الذي بداخلي”.
ويعتبر جوبلز محرر النشرة الدعائية النازية التي تحمل عنوان “الهجوم” (Der Angriff)، وقد تحوّل إلى أكثر شخصية استفزازية يخشاها الناس في برلين، وكان يكتب في تلك النشرة: “إن الهدف من الدعاية هو الوصول إلى نتيجة، ولا داعي لأن تكون منطقية، وإذا تم الحصول على النتيجة المرجوة لدى الجماهير، ستُعدّ هذه الدعاية ناجحة” ،وكانت مهارته في فن الخطابة قد ظهرت كذلك في برلين، وهو ما جعله، خلال فترة وجيزة، الخطيب الثاني داخل الحزب النازي بعد هتلر.