بقلم: محمد كاميش
باتت تركيا تستيقظ كل يوم على وقع أنباء سقوط عشرات الشهداء في مختلف أنحاء البلاد. لكن من شدة حزننا لم نستطع أن نطلق نقاشاً حول ما جرى في بضعة أسابيع حتى صرنا نشاهد هذا الكمّ الهائل من الهجمات الإرهابية وسقوط الشهداء. ما الذي طرأ حتى وصل حزب العمال الكردستاني إلى قوة غير مسبوقة لم يصل إليها في تاريخه من قبلُ بحيث أصبح يسبب لنا كل هذه الآلام؟
ولعلكم تتذكّرون ما جرى من حديث بين النائب الكردي سري ثريا أوندر والزعيم الإرهابي المسجون عبد الله أوجلان، بحسب المحاضر التي نشرتها جريدة “ملّيَتْ” بتاريخ 28 فبراير/ شباط 2013، والتي تضمّنت المحادثات التي دارت بين وفد حزب السلام والديمقراطية؛ حزب الشعوب الديمقراطي الكردي الحالي، وأوجلان في محبسه بجزيرة إيمرالي قرب مدينة بورصا، في إطار مفاوضات السلام الرامية إلى تسوية القضية الكردية. إذ كان أوندر يقول لأوجلان هكذا: “وهناك قضية انتقال تركيا إلى النظام الرئاسي أيضاً.. فالرأي العام حساس جدا في هذا الموضوع”. فكان يردّ عليه أوجلان بقوله: “من الممكن أن نُعمِل الفكر في النظام الرئاسي ونتبناه. فنحن نقدّم دعمنا لرئاسة السيد رجب طيب أردوغان. لذلك يمكننا الاتفاق مع حزب العدالة والتنمية على أساس هذا النظام الرئاسي”. وعندما تساءل أوندر: “ولكن كيف سيكون حينها وضعكم وموقعكم؟” أجاب أوجلان مبتسماً: “عندها لن يكون هناك حبس ولا إقامة جبرية ولا عفو.. لن يبقى هناك أي داعٍ لمثل هذه الأمور؛ لأننا سنصبح جميعاً أحراراً”.
ويتضح لنا من هذه المحادثات أن وفد الحكومة، أو المخابرات التابع لها، المكلف بالإشراف على مفاوضات السلام، قد أجرى مباحثات عديدة مع أوجلان حول رئاسة أردوغان في ظل النظام الرئاسي، وهو أي أوجلان أصدر تعليماته بالموافقة على ذلك وتقديم الدعم اللازم. كما يتبين من الأحداث الجارية اليوم أن الحكومة أجرت محادثات أخرى مع أوجلان حول الإرهاب لا يعرف عنها الرأي العام أي شيء وتتجاوز حدود المباحثات المذكورة.
الحكومة ارتكبت خطأ كبيراً عندما ضمّت ملفّ الإرهاب “الخاص” إلى ملفّ المشكلة الكردية “العام” وتناولتهما معاً في عنوان واحد تحت مسمى “مفاوضات السلام”. ذلك لأن هذه المقاربة دفعت كل الأكراد إلى التجمّع تحت لواء العمال الكردستاني، وإلى تصوير وتقديم عبد الله أوجلان على أنه زعيم جميع الأكراد. ومع أن العديد من المسؤولين نبّهوا إلى هذا الخطأ الإستراتيجي في التعامل مع قضيتي الإرهاب والمشكلة والكردية، إلا أنهم تعرّضوا للنفي أو الإقصاء الواحد تلو الآخر من قبل حكومة العدالة والتنمية. كما أن الحكومة وصمت كل من يلفت من الكتاب والصحفيين إلى مخاطر هذه المقاربة بـ”الدمويون” أو “المتغذون على الدماء”.
ونظرا لأننا لا نعلم بالضبط خفايا الاتفاقيات التي توصل إليها الجانب الحكومي والعمال الكردستاني خلف الكواليس خلال المباحثات التي جرت في مدينة أوسلو النرويجية وجزيرة إيمرالي محبس أوجلان، نحاول فهم اللعبة من خلال انعكاساتها على أرض الواقع فقط. وها نحن نكتشف اليوم أن جميع هذه المباحثات أجريت في إطار “النظام الرئاسي”، وأن الطرفين توصلا إلى عديد من النقاط المشتركة في هذا المضمار.
وعندما أعلن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي عن عزمه على خوض غمار الانتخابات التشريعية السابقة كحزب مستقل بدلاً عن المرشحين المستقلين كما كان سابقاً، مع أن نسبة أصواته كانت تصل إلى 6.5% في الانتخابات السابقة، ولم تتجاوز هذه النسبة 10% حتى في الانتخابات الرئاسية، اعتقد البعض أن هذه الخطوة جاءت “بموجب الاتفاقيات السرية”. ولأن المعطيات كانت تشير إلى استحالة تجاوز حزب الشعوب الديمقراطي الحد النسبي لدخول البرلمان، فإن مرشحي العدالة والتنمية الحاكم هم من كانوا سيدخلون البرلمان بشكل تلقائي بدلاً عن مرشحي الحزب الكردي. لذلك رأينا أن نائب رئيس الوزراء يالتشين أكدوغان الذي تولى الإعلان عن المصالحة مع نوَّاب الشعوب الديمقراطي في قصر “دولمابهشه” بشأن مسيرة السلام قبل انتخابات 7 يونيو/ حزيران قال لاحقاً فيما يخص احتمالية فشل الحزب الكردي في تخطي العتبة الانتخابية: “هناك من يقول إذا لم نتخطَّ العتبة الانتخابية فإنه سيكون كذا وكذا. لن تكون هناك أي مشكلة إذا ما حدث ذلك، بل سيكون جيداً جداً”.
ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن العدالة والتنمية. إذ نجح الشعوب الديمقراطي في تخطي العتبة الانتخابية وحصل على 80 مقعداً برلمانياً. فالقاعدة الشعبية للحزب رفضت هذه “اللعبة السرية” وقالت لها “لا”. وبعد ذلك الرفض بالضبط تفجّرت كل الأحداث التي شهدتها تركيا في الآونة الأخيرة؛ لأن الحزب الكردي تخطى العتبة الانتخابية مخترقاً بنود الاتفاقية التي تمّ التوصل إليها في محافل خفية. وبذلك زال “السبب” الذي كانت مفاوضات السلام تجرى من أجله. فصرح أردوغان في 17 يوليو/ تموز بعدم وجود ما يُسمى بـ”مصالحة قصر دولمابهشه”، ثم أطاح بطاولة عملية السلام في 28 يوليو/تموز. ومن ثم صوّر يالتشين أكدوغان الحالة النفسية السائدة على القصر وحاشيته بقوله: “إذا قلتم إننا لن نسمح لك بأن تكون رئيساً في ظل نظام رئاسي فإنه لا يمكن أن يحدث غير ما حدث اليوم! فليس بمقدور حزب الشعوب الديمقراطي بعد اليوم إلا أن يصوّر فيلم مسيرة السلام”.
كان حزب العمال الكردستاني يدير مسيرة السلام بالتوازي مع حكومة العدالة والتنمية أيضاً. لذلك أقدم على قتل شرطيين نائمين في فراشهما بإطلاق النار على رأسيهما، عقب التفجير الذي نفذه تنظيم داعش في سروج بتاريخ 22 يوليو/ تموز. وعلى الرغم من أن طريقة القتل هذه لم تكن من الطرق التي عهدنها من العمال الكردستاني، إلا أنه لم يجد أي حرج في الإعلان عن تبنّيه قتل الشرطيين. وكما رأينا أن الحكومة أطاحت بطاولة مفاوضات السلام فجأة بعد أن أطلقتها فجأة أيضاً، مما اضطرت منظومتنا الدفاعية التي عملوا على إسقاطها بطريقة مدروسة وممنهجة منذ سنتين ونصف إلى مواجهة الأحداث الأخيرة دون تأهب واستعداد سابقين.
علينا ألا ننسى أبدا هذا التسلسل الزمني؛ لأنه يجيبنا عن السؤال الذي يطرحه شعبنا اليوم: “ما الذي طرأ حتى بدأ يسقط أبناؤنا شهداء؟”