بقلم: ابن النفيس
– هل المقصد هو الإصلاح أم الإفساد؟ إحقاق الحقِّ وإبطال الباطل، أم العكس؟
– هل المراد هو الحفاظ على المكاسب الحضارية والتاريخية للأمة؟ أم المراد هو إحراق البلاد بما فيها وبمن فيها؟
الحق أنَّ الجواب ليس “لفظيا كلاميا حروفيا”، ولا ينبغي له أن يكون كذلك؛ ولكنه جواب “قلبيٌّ إيمانيٌّ حركيٌّ”؛ هو جوابٌ مسؤولٌ عنه عند الله وعند الناس؛ لا يزال أثره يمتد ويمتد إلى أجل مسمَّى… بموجب: “وقفوهم إنهم مسؤولون”.
بهذا النفَس نسترجع “نصًّا فكريا محوريًّا”، كأنه متعلق بما يقع اليوم؛ بل لكأنَّه يخاطب كلَّ واحد منَّا بما يحمل من قلب خاشع، ومن روح مؤمنة، ومن عقل معتبِر… نصٌّ يحل المسألة التركية خيطا خيطا، ويفكها عقدة عقدة.
ومنطوق النص المشار إليه هو:
“إنَّ الشعوب والأمم كثيرًا ما تجد نفسها أمام “ملتقيات قدَرية” إبان فترات إعادة البناء ومخاض التحوّلات.
تلك الملتقيات قد تحمل في طياتها إمكانات الرقي والتألق الباهرَين…
ولكن قد تنتهي بها -بسبب اندفاع الجماهير، وجشع المتمركزين في القمم- إلى انهيار فجائي لكلِّ ما تم بناؤه حتى تلك اللحظة، والعودة إلى نقطة البداية من جديد، وتلك لعمري مأساة قلّما خلت منها حقبة من الزمان.
بيد أنَّ ما يجدر ذكره هنا، أنَّ الفرد في فترات التغيّر والتحوّل تعتريه حال مغايرة للحال التي كان عليها في أيامه الطبيعية.
إذ ينسلخ من الحالة الفردية انسلاخًا تامًّا،
ويتقمّص بقميص “سيكولوجية الجماهير”،
ويتحوّل إلى كيان جماهيري،
حتى يصير جزءًا لا يتجزأ من الحشود التي تندفع كالسيل الهادر نحو اتجاه واحد تبتغي الوصول إليه ولا ترضى عنه بديلاً..
وفي سبيلها تلك تجرف كل ما حولها من عناصر،
وتدفع كل ما يعترض سبيلها بغية الوصول إلى هدفها المنشود.
وإن الأفراد الذين تعرضوا لتحوّل ذهني كهذا، لا يستطيعون أن يعملوا بعقلية الفرد المتثبّت الممحّص البصير،
بل يندفعون مأخوذين بـ”سيكولوجية الجماهير” وعقليتها، منقادين لتوجيهاتها، منصاعين لأوامرها”.
ولو أننا أسقطنا هندسيا ما ورد في النص على ما نقرأ في الواقع، لوجدنا أنَّ تركيا اليوم، وهي في سياق إعادة البناء، وردم الهوة مع الذات، جراء شروخ فتكتها من قرون؛ وهي بالتالي تجد نفسها أمام “ملتقيات قدرية”، يمكن أن تخرج منها منتصرة إذا ما لزم كل فرد وكل مجموع الحكمةَ، وإذا ما اتبع الفرد مع الكلِّ أسباب المصابرة والمثابرة؛ كما أنها قد تجد نفسها في الهاوية، لا قدَّر الله، إذا لازمت الجماهير أسبابَ الاندفاع واللامبالاة، وإذا ما أصرت القممُ، بكل أنواعها، على الجشع والمصلحة القريبة؛ ومن ثم لن تكون هذه المناسبة بابا للرقي والنمو والنماء، بل مدخلا للهلاك والتخلف والعودة القهقرى.
والعجب العجاب هو أنَّ الفرد -وقد شاهدنا ذلك من خلال بعض الحصص التلفزيونية للأسف، ومن خلال بعض الكتابات غير المسؤولة- قد يتحول من حاله الطبيعية إلى حال الانسلاخ من “قيمه ومبادئه ومسؤولياته”، وقد يُغريه أن يجد نفسه منساقا وراء الحشود المتهالكة، مراعيا لسيكولوجية الجماهير؛ أي أنه يتحول إلى “كيان جماهيري”، فيفقد صفات التثبت والتمحيص والبصيرة… ثم يكون بذلك آلة للخراب، ومصنعا للسراب، ولا يعنيه مصير بلده في حركية التاريخ، ولا مصيره هو ضمن حركية الابتلاء…
هنا نتوقف برهة، لنقول: لليوم غده، وللغد غده… ولا بدَّ أن السفينة سترسو على برِّ الأمان يوما ما، وحينها لن تبقى إلاَّ حقائق الأمور، ولن ينفع إلا الصدق، ولن ينجو إلاَّ من حمل نفسه على الحق، وابتغى الحقَّ لا غير: “وقل الحق من ربكم”، “والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون”، “هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم”.
هذا بيت القصيد في المسألة التركية… بل في جميع مسائل الحياة.