بقلم: الهام الطالبي
(الزمان التركية) “هذا العمل ليس سيرة ذاتية، وإنما أحداث متخيلة على شكل حكايات ترويها طفلة في السابعة” ، تعود فاطمة المرنيسي المتشبعة بقضايا المرأة العربية الى مرحلة الطفولة في فاس لنسج وترتيب حكايات عالم الحريم عبر كتاب نساء على أجنحة الحلم يُذكرُ أن هذا المُؤَلف ليس وثيقة تاريخية أو رواية بل تسترسلُ صاحبة (شهرزاد ليست مغربية) في إستعادة مشاهد البيئة الحاضنة لسنوات طفولتها نافضة الغبار عن شريط الذاكرة،ولايمنعها ذلك من إيراد شظايا من تاريخ بلدها المغرب فالبتالي يمتزج السردُ المُتخيل بالوقائع التاريخية. مميطة اللثام عن العالم المنسي خلف بوابة ضخمة يحرسها رجل صارم اسمه أحمد البواب ،الطفلة الشغوف بالسؤال مابرحت تقارن بين مكانة الحريم ومراتبهُنَّ وراء سور الدار ،وكيف كانت عمتها حبيبة المطلقة رمزا للعطاء بدون شرط تسكن غرفة ضيقة وخالية بعدما احتفظ زوجها السابق بكل اثاثها معتقدا أن اشارة منه تكفي لإرجاعها مطأطأة الرأس غير أن حبيبة لم تكترث له واختارت العودة الى بيت والدها محافظة على ضحكتها العجيبة وملكة فن الحكي الأمر الذي جعل من غرفتها متنفسا لفاطمة وباقي الحريم ، اعتبرت الطفلة أن طلاق عمتها جعلها تحتل مكانة متدنية بين الحريم ، وكانت أكثرَ امتثالاً لضوابط وحدود من باقي النساء كما منع عليها ارتداء الملابس المشعة والتزين . كما لاتفوت المرنيسي الإشارةُ إلى دور الحكايات في تنشيط الخيال وتوارد الصور في أذهانهن والإنطلاقة صوب بلدان مجهولة بفعل سحر الحكي.
“كنا نمتطي صهوة الكلمات فنجتاز السند والهند تاركين وراءنا دار الاسلام” هكذا تصف الطفلة كلمات عمتها وحكاياتها التي تسافر بهم الى أماكن متعددة لتعرف على شعوب وثقافات مختلفة ،أعربت الطفلة المتمردة عن عشقها لعالم الحكايات بعدما كانت وسيلتها للهروب من دار اغلقت ابوابها في صفوف النساء بينما لم تغلق ابواب الخيال، فالحريم خلقن فضاء لهن يعبرن فيه ، عبر الاستماع لحبيبة وحكاياتها بأسلوبها الذي يجول بهن فضاءات ممنوعة عليهن في الواقع .
لم يكن للنساء نفس المراتب لقد كانت الجدة’ لالا مهاني’ تتربع على عرش الحريم ،وتحظى بمكانة خاصة تستوجب على أفراد العائلة تقبيل يدها والخضوع لأوامرها، لالا مهاني جدة الطفلة كانت تحرص على الحفاظ على تقاليد متخوفة من اختفائها سيما وأنها تعتبر حجاب المرأة وخضوعها من مقومات الأمان في المجتمع المغربي في الوقت الذي كانت جدتها الياسمين تحتوي اسئلة الطفلة عن الحدود وعالم الحريم، معتبرة أن العالم لا يأبه كثيرا لأن يكون عادلا تجاه النساء مشيرة الى أن القوانين وضعت بشكل جرد النساء من حقوقهن بطريقة او بأخرى، واستشهدت في سياق حديثها بعمل النساء كالرجال طيلة النهار بيد ان الرجال يحصلون على أجر دون النساء ، وعزت الياسمين ظلم القوانين الى إستئثار الرجال بسن القوانين والدستور. فالطفلة بدورها تسأل ولماذا لاتضعها النساء فردت الجدة ، حين ستتوفر النساء على ذكاء يؤهلهن لطرح هذا السؤال عوض الامتثال والطبخ وغسل الأواني طيلة النهار ، حينها سيجدن طريقة لتغيير القواعد وسيهزن العالم بأسره .
تعرض فاطمة المرنيسي عالم الحريم من خلال رؤية طفلة في السابعة ،تعبر عن اعجابها بشخصية طامو المحاربة التي جاءت لضيعة الياسمين عقب انهزام عبد الكريم الخطابي سنة 1926 ممتطية سرج اسبانية ترتدي سلهاما ابيض كالرجال تتخلد خنجرا وتحمل في سرج الفرس بندقية ما الهمت بشكلها حريم الضيعة ، لم تخضع طامو بطلة الريف لتقاليد ضيعة الياسمين بل علمت نساء الضيعة ركوب الخيل، وبرغم من شخصيتها الخارجة عن المألوف في فضاء اعتاد الرجل على رؤية الحريم خلف الأسوار المرئية أو غير المرئية مُطيعات للأوامر، احب جد الكاتبة بطلة الريف وتزوجها متحديا بذلك الصورة النمطية لزوجة ، فطامو لم تكن ربة بيت تطبخ وتنظف كانت عاشقة للخنجر والخيل .
شغلت طامو بال النساء في الضيعة ولقيت اعجابهن وكانت جدة فاطمة الياسمين من أكثر هن احتراما لشخصية طامو وحبا لها .
اعتبرت فاطمة المرنيسي أن الحرية للحريم حلم مستحيل ولهذا كن يلجأن الى المحاكاة والمسرح ، وكانت تلعب شامة ادوار شخصيات نسائية تعرفت عليها في الكتب: عائشة التيمورية، وزينب فوّاز، وهدى شعراوي، رائدات في المطالبة بحرية المرأة ، وكانت تتقن التمثيل وتجعل النساء يتماهين مع الأحداث والشخصيات، بيد أنهن كن يفضلن قصص الحب والمغامرة لأنها كانت تستثير عواطفهن كما كن يرقصن على ايقاع اغاني اسمهان التي يسترقن الاستماع اليها لأن الراديو كان حكرا على الرجال
يؤجج صوت اسمهان في النساء الرغبات الخفية فتخرج الى الوجود بعد أن حكم عليهن بعدم البوح بمشاعرهن ،لذلك كانت اغنية “أهوى.. أنا أهوى” تثير الرعشة في اجساد الحريم ، كن يستجبن لكلمات اسمهان بالتخلص من خفيهن والرقص حافيات حول النافورة، الواحدة تلو الأخرى، كل واحدة ترفع قفطانها بيد وتضم الى صدرها باليد الأخرى حبيبا متخيلا”.
كانت اسمهان نافذة لنساء على عالم السعادة المؤقتة التي لاتدوم طويلا لأنها لم تكن صاحبة قضية بل كانت نموذجا للجسد الجميل الذي يأسر قلوب الرجال بينما كان لأم كلثوم هدف في الحياة . تُقارن فاطمة المرنيسي بين اسمهان وام كلثوم واصفة صوت الأخيرة بالذهب مبدية الإعجاب بقدرتها على شق الطريق من قرية مهجورة إلى قلب العاصمة مُتكئة على مبدأ الإنضباط وتحديد الهدف بينما كانت أسمهان إبنة الوسط الأُرستقراطي لم تبذل لنيل الشهرة. الأكثر من ذلك تلتفت المرنيسي إلى ما يوحي به إليهن كل من أسمهان وأم كلثوم بشخصيتهما المختلفة فالأولى تبدو رمزاً لضياع بصوتها الواهن وجسمها النحيف مُنفصلة عن الواقع، باحثة عن لحظات السعادة غير أنَّ أم كلثوم تظهر بصورة فنانة مُحافظة وشخصية قوية ومؤثرة.هكذا تتجول بك مؤلفة (السلطانات المنسيات) في فضاء طفولتها وما داعب خيالها من أشكال المدن والصور المنبثقة من الحكايات إضافة إلى التوقف عند العادات والتقاليد الخاصة بالمجتمع المغربي أنذاك ربما ما طبع في ذهن المرنيسي وهي طفلة قد دفع بها إلى إختيار حقل السوسولوجيا.