أنقرة (الزمان التركية) أفادت تقارير بأن تداعيات ما سمى بالانقلاب الفاشل لا تقتصر على تركيا فقط، وإنما تتعداها لتصل إلى كل دولة يعيش فيها المواطنون الأتراك، وعلى وجه الخصوص من ينتمون إلى حركة الخدمة، حيث تنتهك السفارات والقنصليات التركية حول العالم القوانين والأعراف الدولية في التعامل معهم، وتحرمهم من الخدمات الرسمية الضرورية، بحجة صلتهم مع أحداث الانقلاب من دون أي دليل.
ورصد المحلل السياسي التركي الشهير دوليا ورئيس تحرير جريدة توديز زمان قبل إغلاقها عبد الله بوكورت هذا الموضوع من خلال مقال نشره في الأيام الماضية، لافتا إلى أن “نظام أردوغان بدأ يتخذ نظام حزب البعث في سوريا ونظام الملا في إيران أسوة وقدوة، في التعامل مع المعارضين والمختلفين معه والمنتقدين له في الخارج بطريقة عنصرية من خلال التفريق بين المواطنين في الخارج، والتعنت في التعامل معهم في تقديم الخدمات القنصلية حتى الروتينية. إذ إن السفارات والقنصليات لا تقدم الخدمات الرسمية إلا لمن تشاء وترضى اعتمادا على مزاجيتها، وتنتهك بذلك القوانين والأعراف والمعاهدات الدولية التي وقعت عليها تركيا”.
سفراء تركيا يقدمون الخدمات القنصلية من إصدار جوازات السفر، وتجديدها، وإصدار بطاقة الهوية أو شهادة الميلاد، أو التوثيق، إلى من يعتبرهم موالين للحكومة من المواطنين، إلا أنهم يحرمون من صنفوهم ضمن “المختلفين فكريا معهم” أو “المعارضين” أو “المنقدين لممارسات الحكومة” الخاطئة، من تلك الخدمات، الأمر الذي لا يشكل انتهاكا صارخا للقوانين والدستور التركي فقط؛ وإنما هو انتهاك للاتفاقيات والمعاهدات الدولية الملزمة لتركيا أيضا.
وبحسب الوقائع التي تم تسجيلها في تقرير مفصل عن الإجراءات التعسفية للسفارات والقنصليات التركية ضد المعارضين الأتراك في الخارج، فإنها تنوعت بين مصادرة جوازات السفر، والتعنت في التجديد، أو الإبطال أو التوثيق أو رفض تسجيل المواليد، أو رفض منح أوراق مطلوبة لأغراض تعليمية استنادا إلى أسباب وحجج واهية. في بعض القنصليات يفضل العاملين فيها التحجج بمشكلات تقنية في نظام الشبكات المستخدم لتجنب تقديم الخدمات، بينما يقولها بعض العاملين في سفارات أخرى صراحة إنهم لن يقدموا لهم هذه الخدمات القنصلية.
ويصف الخبراء والمتخصصون القانونيون هذه الإجراءت والتصرفات بـ”التعسفية والعشوائية”، ومخلة بمبدأ “الأصل البراءة” و”لا عقوبة بدون جريمة” و”لاتزر وزارة وزر أخرى”، وغيرها من المبادئ القانونية، ويؤكدون أن اتهام المواطنين الأتراك الذين يعيشون في خارج بلادهم منذ سنين بأخذ دور فيما سمى بمحاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا العام المنصرم لهو أمر يدل على توجه الحكومة لمعاقبة جماعية مرفوضة بكل المبادئ الإنسانية والدينية.
وتوضح مصادر مطلعة أن الحجج والادعاءات في تجنب السفارات والقنصليات تقديم الخدمات المذكورة قد تختلف، إلا أن حقيقتها واحدة وهى وجود منشور سري مرسل إليها، مدعوما بتعليمات شفهية واضحة، تؤكد عدم استفادة أي فرد من أفراد المعارضة من هذه الخدمات بأي شكل من الأشكال.
انتهاك صريح للاتفاقيات الدولية
هذه الإجراءات التعسفية للسفارات والقنصليات التركية تعتبر انتهاكا صريحا لأحكام المادة الخامسة من اتفاقية “فيينا” الخاصة بالعلاقات القنصلية بتاريخ 1963، التي وقعت عليها تركيا. تنص هذه المادة في بنودها (ه)، و(و)، و(ز) على أن القنصليات والبعثات الدبلوماسية مسؤولة عن تنظيم الإجراءات الخاصة بجوازات السفر والوثائق الخاصة بالسفر لمواطنيها، وكذلك مساعدة الشخصيات الحقيقية والاعتبارية وخدمات التوثيق، إضافة إلى أنها انتهاك لبعض مواد “الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم” الخاصة بمنظمة الأمم المتحدة لعام 1990. جدير بالذكر أن بنود هذه الاتفاقية أصبحت جزءا من القوانين الداخلية في تركيا بموافقة البرلمان التركي عليها عام 2004.
والجانب الأهم من هذه الاتفاقية هو مراقبة الأمم المتحدة لكيفية التطبيق من قبل الحكومة التركية في أنقرة، وإعدادها تقارير حول ذلك. وتقوم لجنة العمالة المهاجرة التابعة لمفوضية حقوق الإنسان بمنظمة الأمم المتحدة في جنيف، بمتابعة سبل تطبيق الاتفاقية، والانتهاكات والشكاوى. وآخر هذه التقارير وأبرزها، هو الذي صدر في 31 مايو/ أيار 2016، والذي يشير إلى وجود تقصير وانتهاكات متعددة من قبل الحكومة التركية في عدة مجالات. إلا أن الحكومة التركية تصر على إنكار هذه الممارسات والإجراءات التعسفية، في ردها على الأسئلة المكتوبة التي أرسلت في 8 أبريل/ نيسان 2016 إلى الأمم المتحدة زاعمة “إن المواطنين الأتراك المقيمين في الخارج، سواء كانوا عاملين أو مستثمرين، أو حتى لاجئين، يحصلون على خدماتهم القنصلية من توثيق وتجديد جوازات السفر وجميع الخدمات بشكل طبيعي في القنصليات والسفارات دون النظر إلى الحالة المدنية لهم”.
جهود الحكومة التركية لم تكف لإقناع الأمم المتحدة
ورغم أن الحكومة التركية تحاول التستر على إجراءاتها التعسفية وانتهاكاتها لحقوق الجاليات التركية في كل أنحاء العالم، إيهام الرأي العام العالمي والأمم المتحدة أنها تقدم خدماتها القنصلية لجميع مواطنيها في الخارج دون التمييز بينهم لأسباب سياسية أو أيديولوجية، إلا أن إجابات الحكومة التركية لم تكن مقنعة بالنسبة للأمم المتحدة، فقررت الاجتماع في 15 أبريل/ نيسان 2016 برئاسة المستشار السابق لوزير الخارجية الفلبيني جوس س. برليانتش، واستمعت للسفير التركي الدائم لدى الأمم المتحدة محمد فاردان جاركتشي، وجها لوجه. وحاول السفير التركي إقناع خبراء الأمم المتحدة من خلال إجاباته الشفهية أيضا، زاعما أن الحكومة التركية تهتم بمشكلات وأوضاع مواطنيها في الخارج. لكن نشرت الأمم المتحدة تقريرها النهائي بعد أسبوعين من هذا الاجتماع، موضحة عدم كفاية المعلومات التي حصلت عليها من الحكومة التركية، وأعلنت أنها طلبت منها المزيد من المعلومات حول القنصليات والسفارات التركية في الخارج. وطالبت الحكومة بتقديم إحصائية بالمساعدات التي قدمتها لمواطنيها بالأمثلة على كل واقعة.
وهنا تظهر فضيحة الظلم الواقع على المواطنين الأتراك في الخارج وتعرضهم للإجراءات التعسفية والسياسات العنصرية. إذ طلبت الأمم المتحدة، من المواطنين الذين تعرضوا للظلم بإرسال ما حدث معهم بالتفصيل، وإبلاغ لجنة العمالة المهاجرة ومفوضية حقوق الإنسان بمنظمة الأمم المتحدة، مشيرة إلى أنها تتلقى الطلبات والشكاوى في مركزها الرئيسي في مدينة جنيف ومن قبل ممثليها في الدول المختلفة.
يضاف لهذه الانتهاكات والمخالفات التي ترتكبها تركيا في القوانين والاتفاقيات الدولية انتهاكاتها ضد المرأة والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة أيضا؛ على سبيل المثال الإخلال ببنود ومواد اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، بالإضافة إلى اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، فضلا عن الاتفاقيات الخاصة بالعنصرية والتمييز، والاتفاقيات التي وقعت عليها تركيا بموجب عضويتها الكاملة في المجلس الأوروبي. ولا شك أن إصدار الرئيس أردوغان بموجب قانون الطوارئ قرارا بإمكانية إسقاط الجنسية عمن صنفهم “معارضين” أو المختلفين معه فكريا” من أكثر الأمور التي تقلق الجاليات التركية في الخارج.