بقلم: ابن النفيس
على ضوء ما يهزُّ تركيا اليوم من تقلبُّات، وما يعتريها من تحولات، تعنينا جميعا، ولا تغادر منا أحداً؛ يحق لنا أن نتساءل بعقلية مفتوحة:
– النظامُ أم الفوضى؛ أيُّهما القاعدة الثابتة، وأيهما العرَض الزائل؟
وهل ثمة “رؤية معرفيَّة” تفسر لنا البنية الهندسية لما نشهد ونشاهد، من أحداث متسارعة، في المشهد التركيِّ اليوم؟
لأجل مقاربة هذا الإشكال الدقيق، رأينا من المناسب معالجة الحدث من منطلق “نظرية الفوضى” في صورتيها: الأولى، والثانية.
الصورة الأولى: نظرية الفوضى في مجال الرياضيات الفزيائية (Chaos theory)، وهي تعني أنَّ التنبؤ حول ظواهر الكون، حتى أبسطها، مثل سقوط ورقة من شجرة، لا يمكن أن يتمَّ بصورة دقيقة مطلقة؛ ومن ثم فإنَّ حركة جناح فراشةٍ في مكان ما من العالم قد يكون سببا لإعصار في مكان آخر، عبر تجمُّع سلسلة من العناصر البسيطة إلى عنصر كبير، في حساب رياضي ضخم جدا، لا يملك الإنسان التحكم فيه ولا إدراك مداه. وتعود بدايات اكتشاف هذه النظرية أساسا إلى عالم الأرصاد “تيودور لورنتز”.
أما النظرية في الصورة الثانية: فهي “نظرية الفوضى الخلاقة” التي يعيدها البعض إلى “دان براون”، ويذكر آخرون أنَّ أول من صاغها هو “مايكل ليدين”، وهي في مجال الجيوستراتيجية والسياسة الدولية تعني: “بأنَّ خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار؛ سوف يؤدي حتماً إلى بناء نظام سياسي جديد، يوفر الأمن والازدهار والحرية. وهو ما يشبه العلاج بالصدمة الكهربائية لعودة الحياة من جديد”، ولقد طبِّقت أساسا على منطقة الشرق الأوسط، والعالم العربي، ولم تعمم إلى السياقات الأخرى.
والمتأمل في واقعنا؛ بما في ذلك العراق، وسورية، ومصر، والجزائر، والسودان، وتركيا… وغيرها؛ يلاحظ أنَّ المخطط “واحد، ينفَّذ عبر مراحل، وليس منفصلا عن بعضه البعض… تختلف الأساليب والوسائل، ولكن المؤدى مشترك حتما”.
مِن هنا وجب على كل عاقل أن يستقي العبرة من “نظرية الفوضى” في شكلها الأول، ويعتصر المعنى من “نظرية الفوضى الخلاقة” في شكلها الثاني.
فمن نظرية الفوضى الرياضية، يمكن أن نستنبط أنَّ مستقبل الأحداث والأزمات والثورات لا يمكن توقعه بدرجة يقينية، ذلك أنَّ المؤثرات متداخلة متكاثفة بشكل يكاد يكون لا نهائيا.
وعمليًّا، ينبغي أن نعلم أن أيَّ كلمة تصدر منَّا، أو حكم، أو موقف، أو تصرُّف؛ أو حتى تغريدة في موقع اجتماعي، أو مقع فيديو في اليوتوب… لا بدَّ سيكون عنصرا محليا صغيرا، سيشترك مع غيره ليكوَّن عنصرا كونيا معقدا، قد يكون له أثر كبير وخطير.
ولعلَّ أمثل آية تنبِّهنا إلى هذا المعنى -مع فارق جذري وهو أنَّ الفوضى في الرؤية القرآنية، مؤداها ضعف الإنسان في إدراك المعقد، لا إلى ذات الظاهرة وإلى جوهرها؛ عكس الرؤية المادية-… نعم، أمثل آية تنبهنا لهذا المعنى قوله تعالى: “وكل شيء عنده بمقدار” في المستوى التوحيدي، وآية “لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها” في مستوى المآل البشري.
أمَّا من حيث الاستفادة من دلالة النظرية في صورتها الثانية، فينبغي أن نعترف ونعتبر أنَّ “النظام لا الفوضى”، “الاستقرار لا التموج” هما عصب الحياة، ومقصد الشرع، ومطلب العقلاء؛ وأن نعمل فرادى ومجتمعين على إحلال الأمان، والتأسيس له علميا وعمليا، اجتماعيا وسياسيا، وفي جميع مناحي الحراك والحضارة.
فهل بلادنا من طنجة إلى جاكارتا… مرورا بمدينة السلام استانبول… هل ستكون ضحية “للفوضى الخلاقة” وأسيرة للتفاعل الحتميِّ في سلسلة العناصر المؤدية إلى خراب، وفق “الفوضى غير المحتملة”؟
أم أننا سنأخذ أمورنا بجدية أكثر، وبعلم أغزر، وبعمل أوفر… فنبلغ مقصدنا في وقت أقصر، مصداقا لوعد ربنا سبحانه: “نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين”. “ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء، وهو العزيز الرحيم”.